إقرأوا معي: وانظروا كيف أعلنَتْ فرنسا دولة لبنان الكبير، وعلى الكبار ترحَّموا…
«مِـنْ سفْح هذا الجبل الشامخ الذي كان قـوَّةَ بلادكم وسُـورَ إيمانها وحريتها المنيع، ومن شاطئ هذا البحر الشهير الذي شهد سفن فينيقيا واليونان وروما ماخـرةً في عُبابه حاملةً آباءكم أهلَ الذكاء والمهارة وأرباب الفصاحة والتجارة، وبقلبٍ يشاطركم فرحكم وفخركم، أنادي بدولة لبنان الكبير باسم الجمهورية الفرنسية راجياً لـه المجد والنجاح..»
هكذا، أعلن المفوض السامي الفرنسي الجنرال هنري غورو من قصر الصنوبر ببيروت دولة لبنان الكبير في أول أيلول 1920.
حتى سنة 1920 كان عمر لبنان كبيراً يزيد على خمسة آلاف سنة، ومنذ ذلك الحين راح يتقهقر ويتضاءل تدريجياً إلى أنْ أصبح لبنان الصغير، لأن الذين حكموا لم يكونوا مثل آبائهم «أهلَ ذكاء ومهارةٍ وأربابَ فصاحة وتجارة»، بل كانوا أهل تخلُّفٍ وفساد.
ولبنان، قبل لبنان الكبير، ويوم كان «جبل لبنان»، كان يتمتّع باستقلال خاص، وبمواصفات الدولة المتطورة حتى قيل في عهد المتصرفية: «هنيئاً لـمَنْ لـهُ مرقد عنـزة في جبل لبنان».
والسبب الذي أدّى إلى انهيار لبنان، حتى لم يعُـدْ يحظى فيه اللبناني بمرقد عنـزة يُحـقّق لـه طمأنينةً أمنَّـيةً وهناءةَ عيش، هو أننا فتَكْنا بكل خصائصه الحضارية… وهذا الشَتاتُ الجغرافي والأقضية الأربعة: البقاع وبعلبك وحاصبيا وراشيا، ومـدن صيدا وجبل عامل وطرابلس وعكار وبيروت العاصمة ، هذه الأقضية والمدن التي جمعها البطريرك الياس الحوّيك، راح كـلٌّ يفكِّكُها من لبنان الكبير، ويخلع على كـلٍّ منها هـوّيةً ملـوَّنة وهويـةً قيْـدَ الدرس ، وهوّيةً قيْـدَ الإيجار.
في مؤتمر الصلح في باريس كان الملك فيصل يصـرّ بدعـمٍ إنكليزي على ضـمِّ لبنان إلى سوريا في إطـار وحـدة عربية، وكان البطريرك الحويك يرفض بإصرار أن يكون لبنان دولةً ذات وجْـهٍ واحد، بل مساحة بشريـة متنوِّعة تجمع طوائف متعدّدة: تتلاقى وتتعارف وتتآخى في إطار إنموذج مثاليٍّ تاريخي.
وكأنما تطلُّعات البطريرك كانت تتلاقى مع الآية القرآنية القائلة: … «وجعلناكُم قبائلَ وشعوباً لِتَعارَفوا (1) «…» ولـو شاء الله لجعلَكُمْ أمَّـةً واحدة» (2).
كان في ذهـن البطريرك الحوّيك، وطـنٌ تتفاعل فيه الحضارات أيجابياً لتردع عنه التفاعلات السياسية السلبية، وتحيِّـدُه عن الصراع الإقليمي العنصري والصراع السياسي العالمي.
ولم يكن البطريرك الحوّيك يعتبر فرنسا هي الأم الحنون، وعلى لبنان أنْ يترعرع في أحضانها، بل هو القائل: «إنّ فرنسا كالشمس إذا بعدْتَ عنها تُدْفِـئُكَ وإن دنوْتَ تحترق» مشيراً بذلك إلى استقلال لبنان التام، بـلْ كانت أمُّـه الحنون أرضَ الوطن المكرّس في الكتاب المقدّس، وأرضَ لبنان الذي قال فيه النبيّ، «إنـهُ أحـدُ جبال الجنّـة الأربعة» (3).
هل يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون – ولبنان اليوم يتقهقر مئة عامٍ إلى الوراء – أن يستوحي مؤتمر الصلح في باريس ليعلن من قصر الصنوبر بدايـةً لمئويَّـة جديدة نولَـدُ فيها ولادة غير مشوَّهة…؟
لعلْ العبرة الأولى هي في المئويَّـة الأولى التي حدَّدتْ مواصفات رئيس دولة لبنان الكبير: على أنْ يكون خارج أيِّ انتماء حزبي وأيِّ مشاحنات سياسية، يتمتّع بالعلم ونزاهة الـخُلق ونظافة الكـفّ، ولما كان شارل دبّاس الأرثوذكسي يجمع هذه المواصفات فيما المنصب للموارنة، فقد استطاع الكونت «دو جوفنيل» أن يقنع البطريرك بـه رئيساً.
وكان يوازيه أوغُسْت أديب إبـن دير القمر أستقلاليةً وعفّـة خُـلُقٍ ونظافة كـفّ، فكان رئيساً للحكومة.
هكذا يبدأ الحلم في دولة مدنية، دولة الإصلاح والتغيير في أن يكون رئيس الدولة شارل دباس، ورئيس الحكومة أوغست أديب.
ويكفي أن يظلّ الطموح اللبناني مكتوماً مثلَ إبـنِ الحرام.

1– سورة الحجرات : 13 2– سورة المائدة : 48 3– مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 4/17: مؤسسة المعارف – بيروت 1986.