بين الأول من أيلول 1920 والأول من أيلول 2020 يكون قد مضى مئة سنة في قياسات الزمن على ولادة الدولة اللبنانية الحديثة, هي الدولة التي تقف اليوم أمام تحدّيين أثنين: إما البقاء والاستعداد لدخول المئوية الثانية, وإما الدخول في الفراغ والتشظي نحو جغرافية سياسية جديدة تأخذ بصيغة الفدرلة بتلوينات مذهبية وطائفية وبحدود نفوذ ترسمها التدخّلات الخارجية الدولية والاقليمية التي تشهد في الوقت الراهن نقاط ارتكاز لها في تضاريس الخارطة الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية اللبنانية.
إنّ تحليلا موضوعيا للمسار التاريخي الذي عرفته الدولة اللبنانية الحديثة على مدى السنوات المئة من قيامها, يقتضي التوقف مع التوصيف التحليلي, عند أبرز المراحل المفصلية التي مرَّت بها وصولا الى مشهدها الانهياري بوتائر متسارعة اليوم. ثمّة ثلاث مراحل تاريخية عرفها المسار التطوّري للدولة:
المرحلة الأولى, الدولة في ظل الانتداب (1920 – 1943):
جاء الإعلان عن قيام دولة لبنان الكبير في الأول من أيلول 1920 ليؤكّد على جملة من الحقائق التاريخية، أبرزها أربع أساسية:
1- إستجابة قيام الدولة الجديدة لدعوات ومطالبات ومصالح محلية وفرنسية على السواء. تمثلت المصالح المحلية بصورة أكثر بروزا في المقاطعة التي عرفت باسم متصرفية جبل لبنان ذات الأكثرية المسيحية وبثقل ماروني وازن, إلا أنّ الدافع الأبرز وراء تكبير جغرافية واقتصاد المتصرفية لمّ بأولويات طائفية بدافع الهيمنة على باقي المقاطعات التي ألّفت الجغرافية الاجتماعية والسياسية للدولة الجديدة, وإنما كان بهدف اقوى يتمثل بطموحات اقتصادية لبرجوازية تجارية نمت وتطوّرت وانفتحت على اقتصاد السوق من خلال تتجيرها لبالات الحرير الخام عبر مرافئ المدن الساحلية في بيروت وطرابلس وصيدا وصور, وعبر وسطاء – تجار من هذه المدن وصولا الى غير غرفة للتجارة في مدن فرنسا, لا سيّما مرسيليا وليون وبوردو وسواها. من هنا كانت العلاقات الاقتصادية قد أسّست لمصالح متبادلة بين مثلث انتاج الحرير ومرافئ المدن الساحلية وغرف التجارة الفرنسية, شكّل هذا المثلث جماعة ضغط مشتركة لتوسيع نطاق المتصرفية الى مدن الساحل مع عمقها الريفي والى أقضية البقاع الأربعة من أجل تكامل اقتصاد الدولة بين قطاعات انتاج تجمع بين التجارة والحرف الصناعية والزراعة.
جاء الإعلان عن قيام دولة لبنان الكبير ليستجيب لمصالح وطموحات المثلث المشار إليه, ولينسجم أيضا مع مشروع فرنسي برز مع تسويات دولية في أعقاب الحرب العالمية الأولى هدفت منه فرنسا الى تأمين حضور فاعل في المشرق العربي تستطيع معه تأمين موقع متقدم لها على هرمية النظام الدولي الذي سينشا بعد الحرب.
2- سعت سلطات الانتداب الفرنسي الى تأسيس دولة لبنانية حديثة من حيث تكامل وظائفها في إدارة المؤسسات العامة وهيكلة الإدارة من الهيئة الحاكمة نزولا على كل الهرمية في سائر المؤسسات السياسية (دستور, مجالس تشريعية ونيابية ووزارية) وقضائية ومالية (بنك سوريا ولبنان), وعقارية (أعمال المساحة), وإصدار المئات من التشريعات والقوانين التنظيمية والتطبيقية التي تدفع بعجلة الدولة لتسيير شأن مجتمعها بكل مجموعاته الروحية وشرائحه الاجتماعية المتنوعة. لقد أراد الانتداب أن يؤسس دولة لبنانية تأتي على غرار النموذج الفرنسي والغربي للدولة من حيث هي حيز عام من جهة, ومن حيث استجابتها لنمو ومراكمة الرأسمال الفرنسي في ظل علاقات انتاج رأسمالية تكون بديلة لعلاقات الانتاج الاقطاعية السابقة على الانتداب. من هنا لم يكن السلوك الإداري والسياسي للانتداب الفرنسي ليمارس من منطلقات طائفية أو مذهبية, ولم يلحظ دستور الجمهورية اللبنانية الأولى لعام 1926 على أي مادة دستورية تنص على طائفية السلطة الرأسية للدولة القائمة, فرئيس الجمهورية الأول (شارل دباس 1926 – 1933) كان أرثوذكسيا وليس مارونيا, والوزارات اللبنانية تعاقب على رئاستها رؤساء موارنة أمثال أوغست أديب والشيخ بشارة الخوري وأميل إده, ورئيس مجلس النواب لم يكن شيعيا في كل العهد الانتدابي, فقد شغل هذا المنصب لسنوات (1927 – 1932) الشيخ محمد الجسر وهو من الطائفة السنية الكريمة ومن طرابلس شمالي لبنان. إذن, الهدف الفرنسي الأعلى كان السعي لتأسيس دولة عصرية تأخذ بالنمط الغربي للدولة وعلى ضوء مضامين العلمنة التي رسّختها الثورة الفرنسية والتي نادت بفصل الدين عن الدولة.
3- الحقيقة الثالثة تكمن في مشكلة الجماعات البشرية التي انضوت في مجتمع الدولة الناشئة, لا سيما جماعات الأعيان في الأرياف الزراعية الذين وجدوا في المأسسة الجديدة في إطار الدولة ما يحدّ من الحرية الرخوة في مناطق سيطرتهم السابقة, لذلك وجدوا في المشهد المؤسسي الجديد ما يعتبرونه قيودا غير مألوفة لديهم. وقد انسحب هذا الموقف من الدولة ومأسستها على العامة من الناس الذين كانوا على علاقات ولاء وتبعية بالزعامات النافذة فرضتها علاقات انتاج اقطاعية وما قبل الرأسمالية, فقد انساق الكثير من أبناء العامة وراء مواقف أعيانهم الرافضين لمشهد الدولة الجديدة من ناحية, والرافعين ليافطات التطييف السياسي كشعار لتعزيز مواقعهم في الإطار الجديد من ناحية أخرى.
ينطبق على الأعيان وجماعاتهم التابعة مقولات الباحث الفرنسي «جاك ويلرس» الذي خرج باستنتاج من أنّ الدولة كمفهوم وكوظيفة هي مسالة طارئة على بلدان المشرق العربي, ففي هذا المشرق لم يحصل الاندماج بين مقوّمات الدولة الثلاثة: الأرض, الجماعة البشرية (الشعب), الهيئة الحاكمة (السلطة), فالأرض هي مجرد مقاطعات تابعة للأمير تعرف باسمه فهو صاحب المقاطعة أو المنطقة, والأمير, الشيخ, البيك, الباشا, الزعيم, هو واحد من حيث الوقوف على رأس الجماعة وتحريكها في الاتجاه الذي يرغبه.
4- يسجل للانتداب وهو الذي جهد منذ البداية أن تستجيب الدولة اللبنانية لمراكماته الراسمالية من خلال نزعات جامحة في الاحتكارات والاستثمارات المالية, ولتعزيز نفوذه الاقليمي في المشرق العربي, يسجل له أنّه أتاح الفرصة لنشوء حركة استقلالية لبنانية انخرطت فيها قوى مسيحية وإسلامية ونخب مدنية من جميع الطوائف والمذاهب, وراحت تطالب بالاستقلال الوطني الذي تمّ انجازه في العام 1943 وعلى قاعدة الأسس والتفاهمات التي أرساها ميثاق بشارة الخوري – رياض الصلح.
المرحلة الثانية, بين الاستقلال والحرب الأهلية (1943 – 1975):
تميّزت هذه المرحلة بتطوّرات ثلاثة تنطوي على دالات هامة:
1- انفتاح لبناني على المحيط العربي على قاعدة الموازنة بين اللبننة الوطنية الاستقلالية مقابل العربنة وتعميق التعاون والتنسيق مع الأقطار العربية, فقد كان لبنان من الدول العربية السبع التي وضعت الميثاق التأسيسي لجامعة الدول العربية عام 1945, وعقد اتفاقيات اقتصادية وثقافية واجتماعية مع غير قطر عربي أسهمت في تطوّرات خطية في اقتصاده دلّت عليها أرقام الفائض في ميزانه التجاري وفي تحوّل عاصمته بيروت الى مركز جاذب للتجارة العربية لا سيّما بعد القطيعة مع الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين, حيث تحوّلت التجارة العربية من مرفأ حيفا الى مرفا بيروت, وتحوّل مرفا طرابلس الى استقبال النفط العراقي من أجل تسويقه الى أوروبا عبر المتوسط.
2- مع تصاعد حركة المدّ القومي في الخمسينيات والستينيات بفعل ثورة 23 تموز الناصرية والمنطلقات الفكرية الوحدوية لحزب البعث والمد الجماهيري الذي صادفه في لبنان وسوريا والعراق وفلسطين والأردن وسائر أقطار الخليج والمغرب العربي, ولما كانت فكرة الوحدة العربية قد باتت الأساس المركزي لتلك المرحلة في برنامجي الناصرية والبعث, فإنّ هذه التطوّرات راحت تترك سلبياتها على الوضع اللبناني الداخلي, تطوّرات عادت لتطرح بقوة مسألتي الخوف والغبن بغلاف طائفي بين المجموعتين المسيحية والإسلامية, فالمسيحيون وجدوا في الاندفاع نحو قيام الوحدة العربية ما يضعف الحالة الاستقلالية للبنان, والذي قد يؤدّي الى اختلالات السلطة لصالح القوى الإسلامية المتعاطفة مع الوحدة العربية, وبالمقابل, رأت القوى الإسلامية في المد الوحدوي القومي ما يمكن أن يكون بمثابة عامل قوة لتعزيز مكانة المسلمين في الساحة المحلية اللبنانية.
أسهمت التطوّرات المشار إليها بإذكاء الطائفية السياسية التي راحت تنسحب على السياسة الداخلية والخارجية وعلى توزيعات السلطة وحتى على توزيع الثروة الوطنية ونصيب الجماعات منها.
3- بعد الهزيمة العربية في حرب 1967, انطلقت المقاومة الفلسطينية كبديل لمواجهة العدو الصهيوني وإستعادة فلسطين وتحريرها, وهروبا من تفاعلات الثورة على أراضيها عمدت الأنظمة العربية لا سيما منها تلك المعنية بالمواجهة المباشرة في مصر وسوريا والأردن, الى إبعاد فصائل الثورة الفلسطينية الى لبنان دونما أي مراعاة لتركيبته الاجتماعية وخصوصيته الاستقلالية. جاءت الفصائل الفلسطينية المسلحة لتحدث خللا واضحا في التوازنات الداخلية بحيث أضافت عنصر قوّة لدى المسلمين سكانيا وسياسيا وعسكريا, بالمقابل أضافت زيادة في الخوف والقلق لدى المسيحيين الذين رأوا في اختلال المعادلة السابقة في تركيبة الدولة مجتمعا وسلطة حاكمة ما سيكون له نتائج خطرة على الحضور المسيحي وعلى خصوصية الصيغة اللبنانية وتميّزها عن سائر المنطقة العربية.
دخلت الأسباب المشار إليها لتكون بمثابة دوافع عميقة وأساسية للحرب الأهلية التي تواصلت فصولها المأساوية على مدى خمس عشرة سنة (1975 – 1990), والتي تركت وما تزال تداعيات سلبية على غير مستوى سياسي واجتماعي وتنموي وإعماري وتربوي.
المرحلة الثالثة, مرحلة ما بعد الحرب (1990 – 2020):
أبرز سمات هذه المرحلة كانت:
1- تسوية دولية اقليمية في مدينة الطائف السعودية خرجت بتكوين جديد للسلطة على أساس محاصصة الدولة وتوزيعها كغنائم بين القوى الطائفية التي خاضت الحرب, أدخلت التوزيعات الجديدة في صلب الدستور اللبناني الذي كرّس وثيقة الطائف بعد الحرب. على أساس هذه الوثيقة كانت المناصفة العددية للمجلس النيابي (128 نائبا) بين المسيحيين والمسلمين, وكذلك المثالثة ضمن المناصفة في تشكيل الحكومات الوزارية أي التساوي في عدد وزراء الطوائف الثلاث الكبرى الموارنة والسنّة والشيعة. هذا, بالإضافة الى تعديل في صلاحيات رئيس الجمهورية (الماروني), ورئيس مجلس النواب (الشيعي), ورئيس مجلس الوزراء (السني), هذا التطييف الرأسي للسلطة انسحب على سائر التوزيعات الإدارية والوظيفية في كل هياكل الدولة ومرافقها العامة, حتى أنّه انسحب على مجمل الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية.
2- ظهور أحزاب وحركات سياسية تقدّم معها الديني الطائفي على السياسي, الأمر الذي قلب الصيغة التي سادت مع الاقطاع السياسي قبل الحرب حيث كان الاقطاع السياسي يتقدّم على الديني مع العلم أنهما مرتبطان في علاقة تحالفية متينة. لقد ظهر في مرحلة ما بعد الحرب حزب الطائفة السياسي كبديل للاقطاع الطائفي السياسي لمرحلة ما قبل الحرب.
3- كانت الأحزاب الطائفية الجديدة التي برزت كبدائل لأحزاب الحركة الوطنية التي طرحت شعار علمنة الدولة, كانت شديدة الولاء المذهبي والايديولوجي والسياسي والمالي والثقافي للخارج الاقليمي والدولي. قفزت هذه الأحزاب فوق ولائها الوطني والقومي وراحت تعمل وفق أجندات خارجية لا تعير أي اهتمام بالشأن الوطني اللبناني ولا بمصيره ومستقبله.
4- وجدت الأحزاب والقوى السياسية لمرحلة ما بعد الحرب في الدولة ومرافقها مصدرا مهما لاستثمارات مالية مربحة فكانت من أصحاب الأسهم في غير شركة تجارية وخدمية ومصرفية, وقد تمكّنت من تجيير أموال طائلة من غير مرفق عام من مرافق الدولة وممتلكاتها.
5- مع السلطة الحاكمة للدولة لمرحلة ما بعد الحرب بات الاقتصاد اللبناني اقتصاد دين, حيث تجاوز حجم الدين العام المئة مليار دولار, وبنسبة تفوق 200% من حجم الناتج المحلي الاجمالي, وكذلك وصلت خدمة الدين لتشكّل أكثر من 45 % من حجم الموازنة السنوية. لقد دخلت الدولة اللبنانية في ضوء السياسات الاقتصادية القائمة على المديونية العالية, وفي ضوء النهب المالي للمال العام ولظاهرة الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة وإداراتها, دخلت في مرحلة الانكشاف الاستراتيجي على غير مستوى إداري, سياسي, اقتصادي, اجتماعي, أمني, غذائي, بيئي وتربوي.
6- الطبقة السياسية الحاكمة للدولة تمكّنت, خلال العقود الثلاثة التي أعقبت الحرب من تجديد نفسها وبالتالي مواقعها في غير مفصل من مفاصل الدولة من خلال اعتمادها الممارسة التسلطية على مؤسسات ومرافق الدولة من جهة, ونزوعها نحو البلطجة كأسلوب قمعي إجهاضي لأية محاولة اعتراضية تقوم في وجهها. اعتمدت الطبقة السياسية المتسلطة على الدولة وناسها وسائل وأساليب تمكنها من أعادة انتاج نفسها تقوم على توظيفات علاقاتها الزبائنية والريعية والخدمية من ناحية, ولجوئها الى تفصيل قوانين انتخابية على قياسها في كل دورة من الدورات النيابية الست التي جرت بين 1992 و 2018.
خلاصة واستنتاجات:
إنّ توصيفا موضوعيا لمسار الدولة اللبنانية على مدى السنوات المئة من تجربتها كدولة حديثة يقودنا الى تسجيل جملة من الاستنتاجات البالغة الدلالة, هذه أبرزها: 1- مشكلة الهوية الوطنية:
بعد مرور مئة سنة على نشأة الدولة لم تتبلور هوية وطنية لبنانية جامعة تلتقي عندها سائر الجماعات المكوّنة للاجتماع اللبناني. فقد ظلّ هذا الاجتماع محكوما بسلسلة متغايرة من الهويات ذات الخصوصيات المتغايرة, وهذا أمر تتحمّل نتائجه قوى السلطة التي حكمت الدولة لقرن من الزمن, وكذلك هناك مسؤولية تقع على عاتق قوى المجتمع المدني, لا سيما الأحزاب والنقابات والروابط الأهلية وسواها, لم تعر هذه القوى مسألة الهوية الوطنية اهتماما كافيا, ذلك أنّ مثل هذه الهوية الجامعة تبقى شرطا معياريا لوحدة المجتمع وبقاء الدولة والحؤول دون تفكيكها وفدرلتها في ظهور دويلات على أساس هويات طائفية ومذهبية متباينة ومختلفة.
2- مشكلة الولاء للجغرافيا:
يبقى الولاء للأرض الأساس العميق لانتاج جماعة بشرية تدين بحبها للأرض لدرجة الإيمان والقدسية. تقدّم ديانة «الشنتو» في اليابان إنموذجا ساطعا على تقديس أرض الأجداد الى حدّ العبادة, وقد كان لهذه النظرة الإيمانية للأرض الأثر الأبرز في الوحدة المجتمعية في اليابان التي هي عبارة عن مجموعات متناثرة من الجزر في المحيط الهادىء, ومن جهة أخرى كان التعلق بالأرض السبب الأبرز في نهضة اليابان الحديثة والمعاصرة. يبقى الولاء لأرض الدولة بمثابة الحصن المنيع لحماية جغرافية لبنان من التقسيم والانشطار, لا بل الكفيل بوحدة الجغرافية السياسية للدولة ومنحها عناصر القوة المدافعة عنها.
3- مشكلة تجديد النخبة الحاكمة:
إنّ النخبة التي حكمت الدولة قبل وبعد الحرب حافظت على إعادة انتاج نفسها, وقد وصلت معها الدولة الى الانكشاف لسبب أنّ مثل هذه النخبة باتت عاجزة عن تقديم الجديد الفكري والسياسي والبرامجي التطويري لكل مناحي الحياة في الدولة. لقد وصلت الدولة مع النظام السياسي التسلطي الى الترهل والانحلال وانعدام التطوّر.
4- مشكلة الوطنية اللبنانية في الثقافات الحزبية:
أن الثقافة الداخلية المعتمدة في الأحزاب المحاصصة للدولة هي ثقافة على مستويين اثنين: الأول, داخلي مذهبي غير وطني, والثاني, خارجي ولائي لثقلفات اقليمية وخارجية. تقتضي هذه المشكلة صياغة قانون جديد للأحزاب السياسية على أساس الثقافة الوطنية والبرامج التي تعزز الولاء للوطن اللبناني.
5- العلاقة بين الوطني اللبناني والقومي العربي:
إنّ لبنان مجتمعا ودولة وطنية هو جزء من نسيج تاريخي للوطن العربي, فلبنان والعروبة يتقاطعان في المدى الجغرافي والثقافة العربية الواحدة, والتفاعلات الحيّة اجتماعيا وحياتيا واقتصاديا, فلبنان هو بوابة العالم الى عمقه العربي, وهو أيضا بوابة الوطن العربي الكبير الى العالم. إنّ استقلال لبنان لا يعني انعزاله عن محيطه القومي, بل على العكس إنّ بناء لبنان وطنيا بشكل سليم هو حاجة قومية للبناء القومي, وكذلك فإنّ البناء القومي السليم هو حاجة لتطوير البناء الوطني اللبناني وعنصر قوّة له.
أخيرا, إنّ بقاء الدولة اللبنانية ودخولها المئوية الثانية للسنوات القادمة يتوقف على انتاج دولة جديدة على ضوء شروط أربعة متلازمة: الأول, إعادة صياغة الدولة سلطة حاكمة نخبوية متجددة فكريا وسياسيا وإداريا. الثاني, إبرام عقد اجتماعي بين السلطة الحاكمة للدولة ومجتمعها على أساس العدالة التوزيعية للثروات الوطنية, وولاء المجموعات المكوّنة لمجتمع الدولة الى الوطن اللبناني الواحد, والخروج النهائي من الولاءات الطائفية والمذهبية والفئوية الضيقة.
الثالث, التأسيس للدولة المدنية الديمقراطية على قاعدة الفصل بين الدين السياسي والدولة وصولا الى تكريس مقولة «الدين للّه والوطن اللبناني للجميع».
الرابع, اعتماد قانون انتخابات نيابية يأتي على قياس الديمقراطية التمثيلية على أسس وطنية سليمة, وليس على قياس زعامات الطوائف التي صادرت الديمقراطية لحساب احتكارها للسلطة والدولة معا.
إنه التحدي الأكبر الذي تواجهه الدولة اللبنانية في ذكرى مئويتها الأولى, فهل ستأتي الاستجابة المطلوبة للرد على هذا التحدي؟