IMLebanon

ماكرون وغورو ونابوليون الثالث

 

 

إذا كان للبنان الكبير أبٌ، فهو شارل – لوي نابوليون بونابارت (الرئيس ثم الإمبراطور، نابوليون الثالث)، لا الجنرال هنري غورو. الخريطة المرفقة هي، ربما، أول خريطة رسمية تحمل اسم «خريطة لبنان». وضعها الجيش الفرنسي، بناءً على عمل القوات العسكرية الفرنسية (اسمها الرسمي – الظاهر في أعلى الخريطة – هو: «القوة الاستكشافية لسوريا») التي أتت إلى بلادنا بعد فتنة 1860، ورحلت عنها بعد أشهر. جرى ذلك في عهد نابوليون الثالث. وبعد انسحاب العسكر الفرنسي، وُضعت هذه الخريطة (عام 1862)، لتُصبح أول وثيقة رسمية فيها ثَبتٌ للنسب الجغرافي لما يُسمى اليوم الجمهورية اللبنانية. وبهذه الخريطة، استعان الفرنسيون عام 1920، لرسم خريطة لبنان الكبير.

 

أهمية هذه الوثيقة أنها تُظهر، للمرة الأولى، رسمياً، حدوداً قريبة من الحدود اللبنانية الحالية، وإنْ كان من الجائز وصفها بخريطة لبنان الأكبر، كونها منحته «حدوداً» تصل إلى بحيرة حمص شمالاً، وبحيرة الحولة جنوباً، وإلى دمشق شرقاً. دمشق، في تلك الخريطة، تبدو جزءاً من «لبنان»، ومعها القلمون الغربي وقرى حوض العاصي والقصير!

ما يفاجئ هو أن معظم المؤرّخين، والمشتغلين بتاريخ لبنان، تجاهلوا هذه الخريطة – الوثيقة، رغم كونها مفصلية. هي أول تعبير رسمي، على شكل وثيقة، عن مشروع فرنسي واضح المعالم / الحدود الجغرافية، لإقامة دولة في شرقيّ المتوسط، في لحظة تمدّد إمبراطوري فرنسي (وصولاً إلى اليابان شرقاً)، وبدء البحث في وراثة السلطنة العثمانية، وخاصة بعد تجربة محمد علي وإبراهيم باشا. هي في سياق متصل بما يمكن تسميته، تجاوزاً، بـ«رؤية نابوليون بونابارت» والدولة الفرنسية ونخبها للمتوسط، منذ ما قبل الحملة على مصر والشام، مروراً باحتلال الجزائر، وصولاً إلى حملة محمد علي باشا وما تلاها. للدلالة على ذلك، يكفي واقع أن قائد القوة الفرنسية التي أتت إلى بلادنا بعد فتنة 1860 (الجنرال شارل – ماري – نابوليون دو بوفور دوتبول) سبق أن كان أحد قادة جيش إبراهيم باشا في سوريا (ولبنان)، وأحد ضباط جيش احتلال الجزائر.

 

 

رغم ذلك، تجاهَل تلك الخريطة – الوثيقة معظم الذين اشتغلوا بتاريخ لبنان. وأكثر من يفاجئ تجاهلُه لها هو جواد بولس (المؤرخ السياسي الذي كان من جماعة إميل إده الفرنسية) الذي يمكن الزعم بأنه أكثر من سعى إلى اختراع «الأسطورة اللبنانية»، وكان يمكنه استخدامها ليقول إن نشوء لبنان سابق للعام 1920، وإنه ليس نتيجة مباشرة لهزيمة ميسلون. كما كان في مقدور من يريدون القول إن لبنان مشروع فرنسي خالص، الركون إليها أيضاً كدليل على رأيهم. ربما تجاهلها الفريقان للأسباب المذكورة، لكن بصورة معكوسة. بولس ورفاقه أرادوا نفي فكرة أن لبنان الحالي «اختراع فرنسي»، والفريق الثاني لا يريد أي أثر سابق لـ«شيء» ما يُسمى لبنان خارج حدود الجبل. وعدا عن الذين يريدون التأريخ بواسطة «ليّ عنق» التاريخ، في مقدور أي مؤرخ أو باحث في التاريخ الاستناد إليها كوثيقة رسمية تعني شيئاً ما، لها دلالاتها. لا يمكن النظر إليها كخريطة رحلات إدوارد روبنسون (1856) التي تحمل عنوان «خريطة شمال فلسطين ولبنان». الأخيرة وثيقة تاريخية. أما الأولى فوثيقة رسمية صادرة عن دولة كانت في ذلك الحين دولة عظمى، وصار لها مذذاك نفوذ هائل في هذه البلاد إلى حدّ إعادة تشكيلها بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى، وبعد هزيمة ميسلون. كان لافتاً أن الرئيس نبيه بري استعان بالخريطة الفرنسية في جلسات المشاورات التي دعا إليها عام 2006، في مجلس النواب. أراد أن يستدلّ بها لتثبيت لبنانية مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، في وجه قوى 14 آذار المشككة في ذلك. ربما كانت تلك المرة الوحيدة التي تم فيها التعامل مع الخريطة الفرنسية كوثيقة لبنانية ذات قيمة ودلالة.

على الهامش، لا أزعم أن معرفتي بهذه الخريطة هي نتيجة «جهود بحثية» قمت بها. رأيتها للمرة الأولى في مكتب الأستاذ نقولا ناصيف. لديه منها نسختان صادرتان عن «المحفوظات الوطنية» (التي أصدرت 500 نسخة منها)، وأهداني لاحقاً إحداهما (تحمل الرقم 15/500). كما أهداني نسخةً أخرى (من غير نسخ «المحفوظات الوطنية»)، الأستاذ يوسف شهيد الدويهي، بعدما لاحظ اهتمامي بها كوثيقة تاريخية متجاهَلة لأسباب مجهولة.

في الخريطة الفرنسية دقائق مثيرة للإعجاب، كما فيها بعض الأخطاء، منها، على سبيل المثال لا الحصر، تبديل موقعَي بلدتَي ميدون وعين التينة في البقاع الغربي، لتصبح الأولى محلّ الثانية، والثانية محل الأولى.

غير بعيد عن الوثيقة المتجاهَلة، أتت زيارتا إيمانويل ماكرون لبيروت، بعد انفجار المرفأ وفي مئوية لبنان الكبير، لتعليا من شأن دور الجنرال غورو في إعلان قيام لبنان بالصورة التي نعرفها حالياً. مرة جديدة، تم تجاهل دور نابوليون الثالث، ومعه خريطة/ وثيقة العام 1862 وسياقاتها المتصلة بالمسألة الشرقية منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ومن جهة أخرى، سمحت الزيارتان لكثيرين بالمقارنة بين غورو وماكرون. الثاني أتى ليؤدّي دور الأول، مع فارق زمني بلغ 100 عام تماماً. يتجاهل هؤلاء أن غورو دخل بلادنا منتصراً انتصاراً هائلاً على السلطنة العثمانية، وانتصاراً ساحقاً في ميسلون، ما أتاح لفرنسا تقسيم سوريا إلى 5 دول ولواء (دولة لبنان الكبير، دولة دمشق، دولة حلب، دولة العلويين، دولة جبل الدروز ولواء الإسكندرون). صحيح أن فرنسا اليوم دولة نووية، وواحدة من أكبر اقتصادات العالم، وعضو دائم في مجلس الأمن الدولي. لكنها ليست دولة عظمى. لا هي فرنسا ما قبل الحرب العالمية الثانية، ولا هي دولة نابوليون بونابارت، ولا هي إمبراطورية نابوليون الثالث المهزوم أسيراً في سيدان (في الأول من أيلول، أيضاً، لكن قبل 50 عاماً من إعلان «لبنان الكبير»). ولا إيمانويل ماكرون هو جنرال ذو خبرة، عارفٌ ببلادنا، كقائد «القوة الفرنسية» الذي أتى لـ«استكشاف» سوريا عام 1860. ماكرون أصغر من ذلك بكثير. ويزداد صغراً إذا ما أُخِذ في الحسبان أنّ الذين يحاول محاصرتهم، خدمةً لإمبراطور العالم الجديد، ليسوا جيشاً انهزم في ميسلون، ولا أبناء سلطنة انهارت قبل سنوات.