IMLebanon

دولة لبنان الكبير: كيان بتقاطيع محلية

 

 

لبنان قديم على ما ورد في “الكتاب المقدس”. لكن “دولة لبنان الكبير” ناشئة، مثل كيانات ودول عربية عديدة. ومن يَعُدْ إلى وقائع التاريخ والسياسة سيجد أن هذه الدولة – بتدبير دولة فرنسا “المنتدبة”، مثل عدد غيرها من الدول – تحمل في نشأتها تقاطيع حراكٍ جارٍ قبل ذلك، في تشكيلة عثمانية-مقاطعجية، وفي التدافع الأوروبي على اقتسام ولايات السلطنة.

 

حدود لبنان “طبيعية”

 

من يتوقف عند خريطة النفوذ الفرنسي في أفريقيا وشرق المتوسط، سيتحقق من أن حدود مناطقها تعينت في “دول”، بل في “كيانات” غير معروفة في الأعراف والقيود الديبلوماسية. وهو ما يَظهر خصوصاً في “حدود” هذه الدول، إذ يبدو عليها أنها ارتسمت في خرائط الديبلوماسيين وفق مساطر الجغرافيين المهندسين: يكفي النظر إلى حدود الجزائر للتأكد من هذا الارتسام الجغرافي-السياسي.

 

خريطة “دولة لبنان الكبير” متعرجة، مثلما تعلّمَ رسمَ حدودِها أي طالب لبناني – مثلي – في المدارس الابتدائية. ولا يكفي الحديث عن “ضمٍّ” و”سلخٍ” لجعل حدود “دولة لبنان الكبير” اصطناعية ومدبرة. فخريطة الدولة الناشئة أتت وفق ترسيمة “طبيعية” (وفق تقسيمات الأنهار والوديان وغيرها)، لا هندسية صرفة؛ وهو ما اجتمع في “أقضية” وأطاح حكماً بحدود الولايات العثمانية.

 

قد تكون العودة إلى “حملة إبراهيم باشا” (ابتداء من العام 1831) هي فاتحةُ تغيرٍ تاريخي متتابع، انتهى –في مصر والسودان معها– إلى جعلها ملكاً سياسيّاً لأسرة محمد علي. وانتهى بحكم الأمير بشير الشهابي (تولى الحكم في العام 1789، ونُفي في العام 1840)، على الرغم من امتداده ونجاحاته في البطش بمناوئيه من دروز و”عوام”، إلى الاهتزاز. انتهى إلى تفكك أسس الانتظام السياسي السابق، العثماني بوكالة أميرية ودرزية، صوب نظام طائفي-سياسي محلي، بإشراف دولي، متوزع في “قائمقاميتَين” (1841)، ثم في “متصرفية” (1861)، قبل قيام “دولة لبنان الكبير”.

 

حراكٌ في الجماعات، بين دروز وموارنة وشيعة وغيرهم، ما ظهر في سياسات مشايخ الجباية، وفي “العوام”، في خريطة باتت تجمع – على تباعدها السياسي أو الإداري السابق – “قبضايات” من بكاسين وحاصبيا وبرج البراجنة وريفون وغيرهم، في “حرش بيروت”، أو في دير مار إلياس في انطلياس، أو في صيدا والمتن ولحفد وغيرها. وقد يجد البعض في اجتماعات وتحركات قادة “القومات” العامية جمعاً غير مسبوق لمن سيكونون في عداد جدود مواطني “دولة لبنان الكبير”: مشايخ التزام و”عوام” في عراك واحد. بل ظهر “قادة”، و”قبضايات”، ما أهلهم لقيادة العراك: لم يتأخر ابو سمرا غانم (من بكاسين في جزين، أحد قادة عامية إنطلياس) عن الانتقال إلى جبة المنيطرة، وعن الشراكة مع عائلة حمادة (الشيعية)، وعائلة رعد (من سنّة الضنية) وغيرهم من أهل الزاوية والكورة وغيرهم في كسر سلطة الثلاثي: العثماني-المصري-الأميري.

 

السلاح، الذي جرى توزيعه من إبراهيم باشا على فئات لبنانية مختلفة ومتنوعة طائفيّاً ومناطقيّاً، لن يفارقهم بعد اليوم في العراك السياسي، بل سيوحدهم بمعنى ما – وإن سيتخذ شكل انشدادات مسلحة بين الجماعات المتلاقية والمتنافرة في آن. وهي ترسيمة عامية ونفوذية لما سيتشكل في بناء طائفي سياسي مبكر منذ “القائمقاميتين” و”المتصرفية” بلوغاً إلى الدولة العتيدة تحت نظر الفرنسيين.

 

بيروت: ترسيمة ثقافية وسياسية

 

هذه الشراكة “اللبنانية” في الاحتشاد السياسي، الذي يتقاطع فيه السياسي بالطائفي، سيجد في شراكة أخرى، بين جبل لبنان وبيروت، قاعدةً جغرافية-تجارية-تثاقفية له، ما سيجعل من بيروت “عاصمة” إلزامية وتلقائية لدولة لبنان العتيدة. وهي بيروت-المرفأ، وبيروت السفن “البخارية” الأوروبية، الحاملة معها القناصل والمبشرين وفكرة الجامعة وتدريس البنات. هذا ما سنجد تعبيراته الثقافية والسياسية الأولى في خطاب بطرس البستاني وابنه سليم، عن بيروت “الجسر” بين الشرق والغرب، وعن كون بيروت “منتدى” التجارة والعلم والثقافة في هذه الجهة من آسيا. فبيروت، التي وصلت جمهوراً من جبل لبنان بسكان بيروت، بعد الاحداث الطائفية الدامية في العام 1860، ستجمع نخباً متعاظمة، ما يظهر في انتقال أعداد من هؤلاء إليها، منهم: (البساتنة، اليازجيون وعائلة خليل الخوري وغيرهم)، وتأسيس مشروعات ثقافية وتعليمية عديدة فيها، هي التي ستتكل عليها العاصمة بيروت في “إشعاعها” اللاحق، وحتى أيامنا هذه.

 

فمقومات بيروت، “درة التاج العثماني” هذه، ستجعل منها عاصمة أكيدة، إدارية وسياسية وتعليمية وثقافية، لـ”دولة لبنان الكبير”، ما ترك ارتدادات واسعة على طرابلس، التي بقيت مركزاً لولاية طوال قرون، وجعلت منها مدينة “طَرَفية” بالنسبة إلى بيروت…

 

إذا كان بعض “دولة لبنان الكبير” ماثلاً في هذا التاريخ المحلي، فإن هذا التاريخ حملَ تشققات محلية بدوره. وهي تشققات أظهرَها الصراع المتمادي عشية الانتداب الفرنسي وغداة قيام الدولة. فكثير من النخب الإدارية والسياسية توزع في المشروعَين المتناقضَين، بين حكومة الدولة الناشئة، وحكومة الأمير فيصل في دمشق، فجمع كل مشروع ممثلِين مختلفي المشارب والانتماءات: اسكندر عمون، الذي كان مقيماً في مصر، سيتولى العدل في حكومة فيصل، فيما نشط اللبناني الآخر، يوسف السودا، من مصر أيضاً، منذ السنوات الأولى في القرن العشرين، في الدعوة والعمل لقيام “لبنان التاريخي”. وهو ما يصح في رضا الصلح، الذي تسلم وزارة الداخلية في حكومة فيصل، فيما سيكون ولده، رياض، صانع “الميثاق” مع بشارة الخوري، لهذا يمكن القول إن ما انفتح، في غمار حملة إبراهيم باشا، من حراك سياسي تعثرَ في إيجاد ممثلِيه، وفي بناء أداة للحكم، فجمع علاقة لم تنفصم (بل توطدت) بين الطائفي والسياسي، وبين العنف والانتفاع. وهو ما رسمَ علاقة معكوسة بين الثقافي والسياسي، حيث أن تعابير الخطاب ومفاهيمه (الوطن، الكيان، التعايش، الميثاق، الديموقراطية…) لم تخفِ واقع الانشدادات المحلية (بين منطقة ومذهب وعائلة)، والمفتوحة على علاقات انتفاع وتأثر مع قوى أجنبية.

 

لم يكن التحاقُ لبنان بالمشروع الفيصلي قابلاً للنجاح، بسبب سياسات فرنسا، من جهة، وبسبب التباين بين التاريخَين، من جهة ثانية. وما ظهر من “وعود” وطنية، في الجمهورية السورية تحت النظر الفرنسي، ما لبث أن انتهى إلى نظام استخباراتي، يدير السياسة بعنف، ويكبت – بعنف أيضاً – حراك الأفراد والجماعات، ما كان لا يناسب، بل يتعارض، مع الإرث المتراكم في بيروت وجبل لبنان على مدى أكثر من قرن.

 

لهذا فإن حنين كثيرين، وإقرارهم بجدوى “دولة لبنان الكبير”، لا يكفيان، في الذكرى المئوية، لاستخلاص نظام جديد فيه: هل تكفي “الثورة” المعلنة لذلك؟ أهي إنذار مبكر بولادة متجددة؟ ألا تحتاج هذه الدولة إلى أسس جديدة لبنائها؟