مَن مِنّا يَستحقُّ بعدُ أن يُحييَ مئويّةَ لبنان الكبير؟ مَن يَجرؤُ ويَرفعُ أُصبَعه؟ لبنان يرجو تأخيرَ مئويّةِ تأسيسِه ريثما تَرحَلُ هذه المنظومةُ التي تَتسلّطُ على دولتِه وتَستبِدُّ بشعبِه. لا يريد أن تكونَ ذِكرى ولادتِه يومَ جِنازة. وأشعرُ بالبطريرك الياس الحويّك وبرجالاتِ لبنانَ الكِبار الّذين أسّسوا هذا الوطنَ وصَنعوا مجدَه يَتحرّكون في قبورِهم وهي تَصلُهم أصداءُ ما بَلغَه هذا الوطنُ العظيم.
ليست صُدفةً أن تأتيَ مئويةُ دولةِ لبنانَ الكبير الأولى، ورئيسُها متهاوٍ وحكومتُها مستقيلةٌ ومجلسُها النيابيُّ مُتداعٍ، وعُملتُها منهارةٌ، وشعبُها ثائرٌ. بكلمة: دولةٌ ساقطةٌ ومأوى فاشلين. أنريدُ أدلّةً دامغةً أكثرَ، وزمنًا أطوَل من مئةِ سنةٍ لإصدارِ القرارِ الظَنيِّ بأولئك الّذين اغتالوا هذه الدولةَ العظيمة؟ والمصادفةُ أنَّ حالَ لبنانَ الكبيرِ مثلُ حالِ مرفئِه: أشلاءُ تلو أشلاء، حتى أنَّ أحياءَ بيروت الـمَبنيّةَ زمنَ الفرنسيّين تَدمّرت. ورمزيّةُ إصرارِ الرئيس إيمانويل ماكرون على العودةِ إلى بيروت (31 آب/01 أيلول) هي التالية: “سنُنقِذُ إعلانَ 1920 وما دَمَّرتُموه سيُبنَى أحلى”. مصادفاتُ التاريخِ قَدَرُ الشعوب، وأخطاءُ الشعوبِ مَحطّاتُ التاريخ.
واجبُ اللبنانيّين، بل حقُّهم، أن يَعتصِموا بالأملِ في عزِّ المآسي. وواجبُهم أيضًا أن يَبتَدِعوا فلسفةَ تفاؤلٍ رغم الواقعِ المتشائم. كانت المغامرةُ جُزءًا من كلِّ قراراتِنا المصيريّة. هذه حالُ جميعِ القراراتِ الكبرى السلميّةِ والعسكريةِ في تاريخِ الشعوب. واليوم، نحن مَدعوّون إلى إنقاذِ لبنان ولو بِحدِّ المغامرة. فلا حلَّ للبنانَ إلا بلبنان. لدى تأسيسِ دولةِ “لبنان الكبير” في القرنِ الماضي، كانت توجدُ بدائلُ منها (البقاءُ على مساحةِ المتصرفيّة، وطنٌ قوميٌّ مسيحيٌّ، الاتّحادُ مع دمشق، إلخ.). أما اليوم فأيُّ بديلٍ مُتاح؟ التقسيمُ؟ الزوالُ كما قال وزير خارجية فرنسا (الفيغارو 27 آب 2020)؟ التغييرُ الوحيدُ الواردُ هو إعادةُ هندسةِ الدولةِ ضِمنَ حدودِها الدوليّةِ وميثاقِها الوطني في إطارِ دُستورٍ لامركزيٍّ وحِياديٍّ ومدنيّ. الخروجُ عن هذه القواعد يؤدّي إلى الانفصالِ أو التقسيم.
رَبطَت الولاياتُ المتّحدةُ الأميركيّةُ مفهومَ الدولةِ/الوطن بالليبيراليّةِ، ورَبطَتْه أوروبا بالديمقراطيّة، ورَبطَتْه آسيا بالنظام، ورَبَطهُ العربُ بالدين. أما مؤسِّسو لبنان فربطوا لبنانَ الدولةِ/الوطن بالليبراليّةِ والديمقراطيّةِ والشَراكةِ الدينيّة. أرادوه متعدِّدَ التحصينات أيضًا. لكن، عِوَضَ أن تُشكِّلَ هذه التحصيناتُ نِقاطَ قوّةِ لبنان تَحوّلَت نقاطَ ضُعفِه. حين يَغزو الانحطاطُ النهضةَ تَحتجِبُ الحضارة. فكيف إذا كانت هذه الحضارةُ متعدِّدةَ المستويات؟
كأني ببعضِ اللبنانيّين الذين يَعبَثون بصيغةِ لبنان وشرعيّته وحدوده، يريدون إيهام المسيحيّين بأنَّ خِيارَ البطريرك الحويّك كان خاطئًا، فتعالوا إلينا نَصنعْ لبنانَ آخَر. مهلًا، لم يأتِ نضالُ البطريرك الماروني الياس الحويّك من أجل لبنان الكبير نزوةَ قائدٍ في التوسُّع، بل إرادةَ رجلٍ اختَبر مآسي لبنان: وُلد البطريركُ الياس الحويّك سنةَ 1843 وتوفي سنة 1931، أي أنّه عَرَفَ نظامَ القائمقاميّتين (التقسيمُ بين سنتَي 1843/1861)، وعاش نظامَ المتصرفيّة (وِحدةُ إمارةِ الجبلِ الكبير 1861/1918)، وقاسى ويلاتِ الحربِ العالميّةِ الأولى والمجاعةَ والتنكيلَ العُثمانيَّ باللبنانيّين (تعليقُ سلطاتِ المتصرفيّة 1914/1918)، ثم ابتهجَ بلبنان الكبير (عَقْدٌ من الانتدابِ الفرنسيِّ 1920/1931).
استنادًا إلى اختبارِه الحالاتِ الدستوريّةَ والكيانيّة المختلِفة، اختار الوِحدةَ على التقسيم، والتعايشَ على الأحادية، والحكمَ الوطنيَّ على الحكمِ الأجنبيّ، والوطنَ على الطائفة. يومَ اختار البطريركُ الحويّك لبنانَ الكبير، بما يعني من تعايشٍ إسلاميٍّ/مسيحيّ، لم يُراهن على لُعبةِ العدَد بل على قيمةِ الشراكة، ولم يُفكّر بالأكثريّةِ والأقليّةِ بل بالتكاملِ الحضاري. فلو استَشْرفَ آنذاك أن لبنانَ سيُمسي ما هو الآن، بالتأكيد لما كان عَرّضَ شعبَه لهذِه التجربةِ البشعة. كان قلبُ البطريرك الحويّك يَخفُق لهذا الوطنِ الاستثنائيّ المترامي بالـــ 10452 كلم² على البحر المتوسّط مَهدِ الحضاراتِ التاريخية. كان واثقًا من الآخَر لأنَّ نيّتَه كانت صافيةً ووطنيّة.
لذا أشاحَ البطريركُ الحويّك، المؤمنُ بدورِ المسيحيّين في محيطِهم، عن جميعِ الخِيارات الأخرى ـــ وكانت ممكنةً من دونِ جُهدٍ ـــ وكافحَ من أجلِ لبنان النُّموذج. يومَها لم يَكن خِيارُ التعايشِ المسيحيِّ/الإسلاميِّ تجربةً جديدةً للبنانيّين فقط، بل للشرقِ الخارجِ من الولاياتِ العُثمانيّة، وحتّى لأوروبا الخارجةِ من الإمبراطوريّاتِ والباحثةِ عن كياناتٍ أصغَر وتوازنٍ بين مكوّناتِ شعوبِها. لكنَّ المؤسفَ أنَّ هذا النُموذجَ لم يُحترم لا في لبنان ولا في الشرقِ ولا في أوروبا. وكان ما كان، وما سيكون في الأشهرِ المقبلة…
وإذا كان البطريركُ الحويّك رَحّب بالانتدابِ الفرنسيّ موَقّتًا سنة 1922 فليس اغتباطًا به، إنّما لتأمينِ سلامةِ انطلاقِ هذا المولودِ الجديد، لبنان، وَسْطَ المشاريع القوميّةِ السوريّةِ والعربيّةِ والإسلاميّة. لقد آثَرَ البطريركُ الانتدابَ لخمسةِ أسبابٍ أساسيّة: حمايةُ الكِيانِ اللبناني، التأكّدُ من التعايشِ، تنظيمُ التعدديّةِ، تدريبُ كوادرِ إدارةِ الدولةِ الناشئة، والحؤولُ دون التدخّلِ الإنكليزيِّ أو عودةِ الأتراك. وحسنًا فَعل.
بعد مئةِ عامٍ على القرارِ التاريخيّ يَتبيّنُ أنَّ نِسبةَ المغامرة كانت كبيرةً مقارنةً بنسبة المعطيات الموضوعيّة. ويَتَّضِحُ أن اللبنانيّين لم يكونوا على مستوى لبنان 1920، بل على مستوى لبنان 2020. لبنان الحويّك، وهو خِيارٌ عظيمٌ، يحتاج شعبًا مشمولًا بالحضارة والاعتدالِ وبحبّ السلام. كلُّ فئةٍ لبنانيّةٍ تعاطَت مع لبنان من مفهومٍ مختلِف. اعتبروه مُلكيّةً لا شراكة، وهديّةً لا إنجازًا، ومَحطّةً لا وطنًا نهائيًّا، ورديفًا عن وطنٍ مُضْمَر، وبديلًا عن حلمٍ مكبوت، وقاعدةً لمشروعٍ غريب. مَـنَّـنَّـاهُ ألفَ مرّةٍ كلَّ شروقِ شمسٍ بأنّنا صِرنا نُحبّه ونَعترفُ به ونُسمّيه بالاسمِ، رغمَ أنّنا قَبضْنا الثمنَ ألفَ مرّةٍ، ولم نُسدِّد دَيْنَنا له. تَبادلنا إهانتَه وخيانتَه. ولما فَقدْنا القدرةَ على العُشقِ عُدْنا إليه حاملين كلَّ الذُنوب. أيَغفِرُ لنا؟ أَشُكُّ: تأخَّرنا في طلبِ الـمَغفِرة. (سنَنتصر).