هي مفارقة مؤسفة أن يحتفل لبنان هذه الأيام بالذكرى المئوية الأولى لإنشائه في ظروف هي الأسوأ لـ«شعوبه» المختلفة التي جُمعت في إطار كيان موحد أُريد له أن يشكل وطناً موحداً لجميع أبنائه.
يسيل الحبر اليوم بغزارة متناولاً الذكرى ومتوقفاً عند أسباب هذا الفشل في الكيان – الوطن، بمقدار سيلان الدماء التي بذلت خلال محطاته التاريخية المليئة بالصراعات والإقتتال الأهلي نتيجة تناقضاته والخلاف على علّة نشوء هذا البلد الذي وُلد من بطن حبلى بالتناقضات.
قبل 100 عام، كان هم الإنتداب الفرنسي أن يشكل لبنان حضناً للأقليات في المنطقة على رأسها تلك المارونية، وحصل ذلك في خضم عملية إعادة إنتاج للمنطقة على هوا المُستعمار الذي رسم خريطة تقسيمية لسوريا بعد خداع العرب وضربه لثورتهم على النّير الثماني، وقد حصل ذلك طبعا في إطار خطة شاملة للمنطقة لم يكن إنشاء كيان مُحتل على أنقاض فلسطين التاريخية برعاية هذا الخارج بعيداً عنها.
وبينما فرح المؤسسون كما اللبنانيين بوطنهم الجديد وصولاً الى الإحتفال بالإستقلال عن الفرنسي في العام 1943، بدا مع الزمن أن النظام الذي تمت صياغته على أساس طائفي كان عقيماً لناحية تأمين إستمرارية سلمية ومستدامة للكيان.
وفي بلد صغير يحتفظ بنظام سياسي هش يرتبط فيه السياسيون بمعظمهم بالخارج، إصطدم الكيان الذي أريد له أن يكون وطنا لجميع أبنائه، بالعقبات والصعوبات بعد صراعات عميقة وحتى وجودية بين مكوناته.
كان واضحاً أن جميع تلك الصراعات كان عنوانها سياسي، لكن جوهرها طائفي ومن ثم مذهبي في مراحل تاريخية لاحقة. هكذا كان الأمر في الصدام الأهلي الأول العام 1958، مع إنقسام البلاد بين مؤيدين للمشروع العروبي بقيادة جمال عبد الناصر، وآخرين راهنوا على الغرب وحلفائه في المنطقة تحت عنوان «حلف بغداد».
شكلت أحداث ذلك العام إرهاصات لما سيحدث بعدها، وعاد الزعماء الى الانقسام على العنوان نفسه في ستينيات القرن الماضي تحت شعار مناصرة الثورة الفلسطينية في لبنان أو معاداتها في إطار «حياد» لبنان عن القضية الفلسطينية.
سرعان ما تفجّر لبنان في العام 1975 نتيجة هذا التناقض، وتنازعه مشروعا الوطنية العروبية وجلّها مسلم ويساري الطابع، واللبنانية المسيحية اليمينية المحافظة. لكن أساس الخلاف حينذاك شكله الظلم الذي لحق بشرائح لبنانية واسعة وإجحاف سياسي وإقتصادي وحرمان إجتماعي مزمن، ما أدى مع الظروف السياسية والمؤامرة الدولية لتوطين الفلسطينيين في لبنان الى مأساة ذلك العام.
والحال أن هذا الحرمان لم ينفصل يوماً عن طبيعة النظام الطائفي الذي لم يكن فقط قاصرا عن معالجة الداء اللبناني، بل مساهماً في تدمير الصيغة اللبنانية الفريدة القائمة على نموذج للحرية وللإقتصاد الليبرالي وللإزدهار الذي كان مفقوداً في الدول العربية والمشرقية عامة.
ولعل الفرادة اللبنانية تمثلت فعلاً في تلك التوأمة بين إنتماء عربي ضارب في التاريخ وحداثة غربية غنيّة في تنوع نادر كان من المؤسف أن يضربه داء الطائفية والمذهبية الذي لم يأت إتفاق الطائف على أثر الحرب الأهلية ليعالجه، بل إكتفى بأن يُسكت المدافع ويؤجل الإقتتال الأهلي وهو رسّخ الداء بينما إكتفى بإطلاق الوعود لدولة مدنية بعيدة عن الطائفية بقيت سراباً منذ نحو 31 عاماً حين التوصل الى ذلك الإتفاق.
الانطلاق من الطائف
اليوم بعد فشل التجربة، تتصاعد الدعوات لإصلاح هذا النظام وتُطرح رؤى مثل مؤتمر تأسيسي أو عقد سياسي وإجتماعي جديد، وإذا كانت هذه الدعوات جديدة قديمة إلا انها اتخذت زخما من دعوات مقابلة برزت نحو الفيدرالية ما زالت متواضعة لكن لها دلالات كبيرة.
والمفارقة أن كل تلك الدعوات تحتفظ بجوهر طائفي، وتستند الى خلفيات مصلحية للكيانات الحالية، لكن الحقيقة التي يجب أن تقال هي إن ذلك يشير الى فشل التجربة اللبنانية حتى الساعة.
ذلك أن النظام السياسي العقيم قد أدى الى حروب أهلية علنية وأخرى باردة وفي أحيان كثيرة مستترة، ولا حل سوى بتحصين هذا النظام. وسترتفع الدعوات في المراحل المقبلة لتعديل ما على هذا النظام، أو حتى لتغييره، لكن تبديل أنظمة الحكم في دولة هشة ديموقراطياً لا يتم عادة سلمياً بل من خلال إقتتال أهلي أو حروب طوائفية قد تؤدي في لبنان الى ما هو أسوأ.
لذا فإن لا خيار أمام اللبنانيين سوى بحماية نظامهم الذي أقره اتفاق الطائف والذي تطلب تضحيات جسيمة بشراً وحجراً. فهذا الإتفاق هو ما قد يؤدي، على صعوبة الأمر، الى خطوة مقبلة نحو دولة مدنية تعلي شأن القانون ولا تفرق بين طوائفها قد تندرج في إطار العنوان المغري والمكرر عن «دولة عابرة للطوائف»، والتي يمكن التوصل إليها عبر تطبيق ما جاء به الطائف ببساطة وأول ذلك إلغاء الطائفية السياسية التي كانت أساس البلاء.
وفي ظل انتفاضة شعبية عارمة على المنظومة السياسية بكاملها والتي أشارت الى كفر شرائح شعبية كبرى بها، يمكن التعويل على ثورة الغضب تلك لتحقيق خرق ما في جدار تلك المنظومة.
من الطبيعي أن يتخذ مسار التغيير المأمول أجيالاً طويلة، إلا أن ما حدث في 17 تشرين الأول 2019، وقبله بسنوات أربع مع الغضب الشعبي من أزمة النفايات التي تحولت الى انتفاضة معيشية وسياسية أسست لتاريخ 17 تشرين، قد يتواءم مع تغيير في العقلية السياسية لتلك المنظومة التي ستتخذ مواجهتها مع الناس طابعا أكثر صعوبة في ظل الثورة الإعلامية والتكنولوجية المتصاعدة.
اليوم، يعلم الجميع أن تغليب الثقافة الطائفية على تلك المدنية كان في أصل بلاء لبنان الذي بقي كياناً دون الوطن لجميع أبنائه الذي أمله المؤسسون. ذلك أن الصيغة التي وُلد الكيان على أساسها كانت حُبلى بالأزمات التي إنشطر بسببها وتهدد بها سلمه الأهلي من دون أن تأتي التسويات التي أبرمت خلال عقود سوى لتعزيز هذا النظام الولّاد للمآسي.