مرّت الذكرى الثامنة والتسعون لإعلان «لبنان الكبير» في 1 سبتمبر (أيلول) 1920، وباتت صورة الحفل الذي جرى في تلك المناسبة بقصر الصنوبر في بيروت، للجنرال الفرنسي غورو يحيط به رؤساء «العائلات الروحية» اللبنانية، من محفوظات الذاكرة الجمعية، ولا ريب في أنها ستُستعاد وتبرز إلى الأضواء، بعد عامين مع احتفالات الذكرى المئوية لتأسيس الكيان اللبناني الجامع لطوائف ومناطق لم يسبق أن تلاقى بعضها مع بعض إلا تحت احتلال أجنبي.
في الإجمال، لا يحظى تأسيس «لبنان الكبير» باهتمام كبير، بل يشبه الاحتفال به ذكرى زواج بالإكراه. كانت نهاية الحرب العالمية الأولى، وانهيار الحكم العثماني، وإخفاق السلطة العربية الفيصلية في سوريا، وحسابات الربح والخسارة للأقليات والأكثريات والطوائف المذعورة، تلقي كلها بظلالها على اجتماع رؤساء «العائلات الروحية».
ولبنان اليوم يعيش على خيالات عصر ذهبي مضى، لكن تعيين ذاك العصر ومصدر تميزه و«ذهبيته» يحتاج إلى فحص. والحال أن اللبنانيين يختارون العصر الذهبي وفق رؤاهم الحالية وتأويلاتهم لتاريخ بلدهم، فليس غريباً أن تتبنى الجماعات ومؤرخوها والمتحدثون بأسمائها تصنيفات مختلفة لزمن لبنان الذهبي، ولكل رئيس أنصار يشيدون بالإنجازات، التي تحققت في أيامه، ولكل حقبة محبذون، حتى الحرب الأهلية بين 1975 و1990 ثمة من يشيد بها لأنها انطوت، خصوصا في مراحلها الأولى، على آمال في التغيير الجذري لنظام الحكم داعبت مخيلات يساريين ويمينيين ومسلمين ومسيحيين سواء بسواء؛ من «برنامج الإصلاح المرحلي» لـ«الحركة الوطنية» اللبنانية يساراً، إلى رؤية بشير الجميل مستقبل لبنان يميناً. يضاف إلى ذلك، إشادات بأكثرية الرؤساء الذين تعاقبوا على المنصب الأول في الجمهورية مع تقدير لإنجازات كل واحد منهم وتقدير للظروف التي جعلت مهامهم عسيرة.
والمهمة التي تشارك كل رؤساء لبنان منذ تأسيسه في العجز عن أدائها تتجاوز الصفات الشخصية لأفراد والصعوبات الموضوعية التي واجهتهم، لتصل إلى قلب الكيان اللبناني الذي، على غرار الدول التي أفرزتها اتفاقية سايكس – بيكو، حمل تناقضاته في داخله. انفجار التناقضات هذا هو الجزء الرئيسي من المشهد الحالي الممتد من العراق إلى فلسطين. والسؤال لم يجب عنه اللبنانيون بعد نحو القرن على لقائهم في دولة واحدة. وليس مهماً أن تكون دولتهم «كياناً مصطنعاً» أو جزءاً سليباً من دولة أكبر. المهم أن اللبنانيين يكابدون اليوم عناء فشلهم في صوغ إجماعات وطنية على الهوية والعدو والصديق؛ بل على الاقتصاد والتربية.
والقول إن ما يختلف عليه اللبنانيون يفوق كثيراً موضوعات اتفاقهم، لا يضيف جديداً إلى تشخيص الأزمات المزمنة في هذا البلد. في كل دول العالم ثمة خلافات وصراعات وتناقضات حول كل ما يمكن أن يخطر في بال؛ من التاريخ إلى التشريع وحقوق الأقليات والحريات العامة. رموز الكونفدرالية في الحرب الأهلية الأميركية، على سبيل المثال، ما زال تقييم دورهم وشخصياتهم محل خلاف إلى اليوم. وثمة سرديات عدة حول تلك الحرب وأسبابها ومآلاتها، ويدور حوار أكاديمي وثقافي، وتعقد ندوات تتناول الخلفيات والأبعاد وما يعثر عليه الباحثون في الأرشيفات من وثائق وآثار، ثم يأتي الانقسام الآيديولوجي ليغذي السرديات المتباينة. ومن اللافت للانتباه أن المواقف من شخصيات الجانب الكونفدرالي الجنوبي من الحرب الأهلية الأميركية لم تعد إلى الأضواء إلا منذ أعوام قليلة مع تصاعد التوتر السياسي في الولايات المتحدة على خلفية عنف الشرطة ضد الأقلية السوداء، وتقدم قوى اليمين المتطرف لاحتلال مواقع أكثر تأثيراً في الحيز العام.
وعلى هذا النحو، يمكن القول إن المشكلة اللبنانية ليست فقط في عدد الموضوعات المختلف عليها وحولها، بل في آلية الحكم وقدرتها على العمل والإنجاز، وليس من الصدفة في شيء أن ترتفع الأصوات المنكرة الطائفية والمذهبية والمحرضة على العنف والكراهية في لبنان، كلما تعمقت أزمات الحكم وتفككت أجهزة الدولة وتكشفت حدود الانقسامات، التي تفصل بين اللبنانيين، والعكس بالعكس، ذلك أن السلطات كلما امتنعت عن القيام بوظائفها نبتت آفات ومشكلات جديدة في قاع المجتمع وعلى هوامشه ومتنه، حتى يصير من المتعذر استئصالها لاحقاً، بل إنها تساهم في تصعيد أزمة الدولة.
تدهور البنى التحتية والخدمات العامة وإلحاق الفساد أضراراً غير قابلة للإصلاح في الإدارة وفي سلوك المواطنين المتماهين مع سياسييهم وقادتهم وزعماء طوائفهم وأحزابهم، مظاهر للأزمة العامة التي ما فتئت تتجذر منذ عام 2005، عندما انتهت وصاية النظام السوري على لبنان، وانتهى معها التوافق العربي – الغربي على إسناد تدبير الشأن اللبناني إلى دمشق.
منذ ذلك الحين، ظهر أن توازن القوى الداخلي أولاً، والمستند في ديمومته إلى صراعات إقليمية ودولية يعوق العمل اليومي للدولة وليس فقط بناء مؤسساتها وتفعيل قوانينها، بل إن الإعاقة هذه تمُت بكثير من الأسباب إلى لحظة التأسيس عندما اجتمع قادة «العائلات الروحية» على درج قصر الصنوبر برعاية الجنرال الفرنسي غورو، وفي هذه الأيام يبدو أن التأسيس مستمر من دون نجاح كبير، وأن كل مشكلة تتطلب إعادة قراءة للدستور والعودة إلى «اتفاق الطائف»، والتذكير العلني أو المستتر بمن يحمل السلاح وبأخطار الجيران ودمويتهم.
اجتماع قصر الصنوبر عُقد على مضض… ولا يزال.