في بدايات القرن الماضي، شهد لبنان حالة من النهوض والإزدهار، على مستوى الحالة الشعبية السياسية المتنوّعة التي واكبتها مجموعة من الرجال الكبار، الذين بِكِبَرِهِم كبر الوطن معهم، وتحوّل الى لبنان الكبير. هذا اللبنان الذي حاولوا أن يجعلوه أجزاء متقطّعة غير متعايشة، تنتسب بانتماءاتها الى الخارج، وتنطلق بمصالحها بمجموعات مختلفة، مُنغلقة على نفسها. جاء هذا المنطق النهضوي الذي حملته مجموعة من القيادات، على رأسهم البطريرك الياس الحويك يوم طُرح موضوع مصير الدول التي كانت محكومة من الإستعمار العثماني، وانتقلت الى الإنتداب الفرنسي سنة 1920، فنهضت مجموعات من القيادات اللبنانية ودفعت برؤية متطوّرة، ساعية لجعل لبنان وطناً فريداً كبيراً كما سُمّي لبنان الكبير، مُتعايشاً ومُنفتحاً على بعضه في الداخل، ومُنفتحاً على الخارج.
كانت هناك وجهات نظر تحاول أن تُبقي لبنان الصغير أو لبنان القائمقاميتين التي كانت عبارة عن تقاسم نفوذ ما بين الموارنة والدروز، وسعت بكل امكانياتها من أجل ضمّ الأقضية الأربعة وحلّ ولاية بيروت بهدف جعلها عاصمة للكيان الجديد الذي اسمه لبنان الكبير، والذي يشتمل على الأقضية الاربعة في البقاع والجنوب والشمال.
وهكذا، فُوّض البطريرك الحويك بالذهاب الى باريس للتفاوض مع عصبة الأمم، ومع فرنسا بالتحديد، ودافع بشراسة عن ضرورة عدم تحويل لبنان كياناً غارقاً بخصوصيته ومُنكفِئاً على ذاته، مؤكّداً بأنّ هذا التنوع في الصيغة اللبنانية والتنوّع ذو طبيعة إيجابية وفريدة من نوعها، وقادرة على التفاعل وعلى إغناء العيش المشترك الذي يفتقد له هذا الشرق، وحيث لا يوجد الكثير من البلدان التي تتشابه وهذا الكيان اللبناني الجديد الذي سيكون اسمه لبنان الكبير.
تمكّن البطريرك الحويك من إقناع المجتمعين بضرورة أن تكون حدود لبنان هي الحدود الحالية، من الشمال الى الناقورة، ومن البحر حتى السلسلة الشرقية بمساحة الـ 10452 كلم مربّع بعدما كان اقلّ من 3 آلاف كلم مربّع.
ولادة لبنان الكبير استمرّت تحت الوصاية حتى سنة 1926، وقد أعطت التجربة ثمارها. صحيح أنّ هناك تيّاراً معارضاً في لبنان خصوصاً من سكّان الساحل، ولكنّ هذا التيّار لم يستطع مواجهة المنطق الإنفتاحي للإنتماء اللبناني بهوية عربية. وتمكّن اللبنانيون من إرساء قواعد الوطن المستقلّ الذي نعيشه اليوم ونعيش محنة وجوده اليوم، لأنّ هذا اللبنان الكبير، لبنان رجال الرؤى العظيمة والكبيرة المنفتحة، لا يزال يتعرّض لهجمات منذ نشوئه، لمحاولة إعادته الى القوقعة وقد ارتكب أخطاء كبيرة. طبعاً لا أستطيع أن أتجاوز مرحلة الاستقلال فقد توفّي البطريرك الحويك سنة 1931 ولم يشهد استقلال لبنان سنة 1943.
ولكن، بالرغم من هذا، فأي لبناني يتمتّع بحسّ يتلاءم مع دور لبنان الذي سمّاه البابا يوحنا بولس الثاني “لبنان أكثر من بلد، إنه رسالة”، لا يمكن إلّا أن يكون مُمتنّاً من دور البطريرك الذي أمّن حضور هذا الكيان العظيم.
إستقلّ لبنان سنة 1943، وعاش فترة طويلة من الإزدهار الإستثنائي في العلاقة ما بين مكوّناته، والعلاقة ما بين الدول المحيطة به، من عهد الرئيس بشارة الخوري مروراً بعهد الرئيس كميل شمعون وصولاً الى عهد الرئيس فؤاد شهاب، وبدأت الصيغـة اللبنانية تعانـــي من أزمات تحت ضغط التجاذبات الإيديولوجية التي اخترقت وعي تيارات كثيرة من اللبنانيين، منهم من كان يسعى ولم ينسَ الحنين للراحة الكسولة التي يؤمّنها الإنكفاء والقوقعة، ومنهم من أخذتهم الايديولوجيات المافوق وطنية الى محاولة تجاوز الوطن والكيان ومحاولة إعادة تذويبه في إطار المحيط الأوسع، غير مُبالية بمصير الدولة ككيان. هذان التياران بقيا على صراع منذ 1969 حتى هذه اللحظة. طبعاً لأنّ هذه التيارات لم تتّعظ وتنظر بعمق للحظة نشوء هذا الكيان ومدى عمق القيادات والتيارات التي انشأته سنة 1920، ولكن كلّ هذه التيارات المتصارعة، والتي أقدم جميعها على تقديم نقد ذاتي لتجاربه يميناً ووسطاً ويساراً ما قبيل الحرب الأهلية وأثناءها وبعدها، لأنّ هذه التجارب كلّها كانت ستنال من الكيان وما زال الخطر قائماً. ولكنّ هناك وعياً متّسعاً لأهمية حضور لبنان بصيغته التي تمّ تعديلها جزئياً، ولكن بنفس الجوهر، باتفاق الطائف سنة 1989 بأن جعل من لبنان كياناً نهائياً، بهوية عربية، مبنيّاً على أساس الوفاق الوطني والعيش المشترك.
طبعاً، مررنا بمحن استثنائية، منها محنة الوجود القسري للثورة الفلسطينية في لبنان بعد أيلول 70 حين طُردت من الاردن وجاءت الى لبنان، وسبّبت ما سبّبته نتيجة أخطاء التيارات السياسية المتعاملة معها والمتفاعلة مع الخارج. واسوأ ما حصل بمحصّلة هذه التجربة أنّ لبنان وقع في براثن النظام السوري الذي قدّم خدماته للقوى العظمى، وخصوصاً للولايات المتّحدة الأميركية، مُتعهّداً بأن يُخمِد دور الفلسطينيين في لبنان شرط ان تُطلَق يده في لبنان كلّه. هذا الخطر تعزّز بعد دخول صدّام حسين الى الكويت سنة1991، وقد أُقرّ اتفاق الطائف في سنة 1989 وكان هذا الإتفاق هزيمة لمشروع سوري كان يُعدّ، واسمه الإتفاق الثلاثي.
ولكنّ النظام السوري أعاد الكرّة سنة 1991 مُستفيداً من مساعدته للجيش الأميركي في الكويت في مواجهة الجيش العراقي، وقبض الثمن في لبنان، وحاول أن ينال من كيانية لبنان. وإن انسى لا أنسى كلاماً سمعته شخصياً من رئيس النظام السوري حافظ الأسد، كان قد سمعه جورج حاوي قبل يوم، يدعو الى الوحدة بين لبنان وسوريا. في اليوم التالي، عُقد لقاء بين وفد من قيادة الشيوعي مع الأسد، وفي نهاية الإجتماع قال الأسد لجورج حاوي: وِحدة لبنان وسوريا “بتِنشَغَل بتِنعَمَل ما متِنحَكى”، وهذا الفهم لحافظ الأسد كان هو أساس عنوان “شعب واحد في بلدين”، أي أنّ هناك بلداً يجب أن يزول. طبعاً لم يكن يقصد سوريا، بل لبنان. ومن هنا نشأت النظرية التي نعاني منها الآن، تحالف الأقليّات، أي الشيعي والعلوي والماروني. هذا في ايديولوجية سلطة آل الاسد، لأنّ الخوف هو ابتلاع لبنان من قبل العرب تحت عنوان أنّ السنّة هم الأكثرية وهذا يهدّد وجود لبنان. والآن نستطيع أن نقرأ ذلك عبر تحالف “حزب الله” ـ عون والنظام السوري الذي أوصل البلاد الى ما وصلت اليه اليوم.
لهذا السبب، أقول انّ الخطر على لبنان في مئويته، هذا لبنان الكبير الذي حلم به رجال كبار، جاء رجال صغار ليحاولوا أن يجعلوه كيانات صغيرة ومجموعات متعصّبة مُنغلقة على نفسها، بدل أن تكون منفتحة على العالم كما يطالب صاحب أي فكر نيّر أن يكون دور لبنان كذلك. نحن سويسرا الشرق، نحن الجسر بين الشرق والغرب، نحن البلد الذي يستطيع أن يختزن الحضارة المسيحية والإسلامية وغيرها من الحضارات الإثنية. يريدون أن يجعلوه كارهاً لمكوّناته ولمحيطه. فهذا اللبنان الذي لم يمض بعد على اغتيال عاصمته اسابيع، هذه العاصمة التي شكّلت جسراً حضارياً ثقافياً اقتصادياً بين شرق متوسط وباقي العالم. يريدون إلغاء دور بيروت من خلال تدميرها لأنّ هذا الاساس. كان مطلوباً أن يكون لبنان كياناً مُهمّشاً مُلحقاً ببلاد الشام.
مشروع لبنان الكبير وواقع لبنان الكبير يواجهان اليوم أزمة مصيرية، وهذه الأزمة يُخطئ من يظنّ بأنّها أزمة نظام أو أزمة دستور، فليس النظام مأزوماً ولا الدستور مأزوماً. إنّ تكرار الإحتلالات في لبنان ولّد طبقة سياسية مفكّكة وأورثتنا أمراً واقعاً جديداً يعطّل الدولة. أزمة لبنان بهذه الطبقة السياسية التي حوّلته مجموعة من العصبيات الخائفة المدافعة عن وجودها وغير المتواصلة وغير المتفاعلة. إنّ هذه الطبقة السياسية لا يُمكن أن تُنتج رجال دولة يُعيدون للبنان دوره كدولة ذات كيان وذات هوية عربية وذات دور عالمي. من هذا المنطلق، أزمة لبنان هي أزمة سياسية، أزمة رجال دولة فقدوا شجاعتهم وحلمهم ببناء وطن، ومن المؤكّد أنّ الخائف والمُنكفئ على نفسه والرافض للآخر والكاره للآخر لا يُمكن أن يُنتج وطناً بحجم لبنان الكبير.