الأزمة اللبنانية “يونانية”… منذ أكثر من عشر سنوات
لبنان ليس البلد الأول في العالم الذي يقع في أزمة مالية. عشرات الدول سبقته، وستلحقه العشرات أيضاً في المستقبل. إلا أن ما يُميّز الأزمة اللبنانية هو درجة الإستخفاف التي تتعامل فيها السلطة مع التداعيات الخطيرة التي بدأت تنخر المجتمع المهترئ مثل “السوس”، وغياب أي رؤية إنقاذية، وانعدام النيّة الصادقة والجدية اللازمة للبدء بالحلول حتى ولو توفّرت الأفكار.
قبل نحو عشر سنوات إنفجرت على الضفة الثانية من البحر المتوسط أزمة نقدية في اليونان. أسبابها كانت “نسخ ولصق” عن الأزمة التي نشهدها اليوم في لبنان. ففي نهاية العام 2009 بدأت تظهر عوارض إمكانية تخلّف اليونان عن الوفاء بالتزاماتها المالية وتسديد ديونها، نتيجة الزيادة الحادة لحجم الدين العام وارتفاع عجز الموازنة وضعف النمو، وهو الأمر الذي أدّى إلى أزمة ثقة في الأسواق المالية، فارتفعت معدّلات الفائدة وكلفة التأمين على السندات اليونانية.
إفلاس اليونان
مع بداية العام 2010 كانت اليونان قد أعلنت إفلاسها وطلبت الإنقاذ من صندوق النقد الدولي والإتحاد الأوروبي، فلبّيا الطلب. المنقذون وافقوا على منح اليونان سلسلة من القروض المالية وصلت إلى حدود 330 مليار يورو مقسّمة على دفعات كل ثلاث سنوات، ومشروطة بالإصلاح وتخفيض عجز الموازنة وتصغير القطاع العام والتقشف. صارحت اليونان مواطنيها وقوننت في العام 2015 “الكابيتال كونترول” (انتهى في العام 2019) وحدّدته بحوالى 60 يورو يومياً.
“لا شك أن هناك أوجهاً من الشبه بين الازمات المالية في لبنان مقارنة مع اليونان. فالعنوان الابرز للأزمة هو الفساد المستشري وانعدام الشفافية وغياب المحاسبة والتخطيط وضعف الإدارة، بالاضافة الى أزمة السيولة التي تعانيها المصارف في البلدين، واستحقاقات ديون دولية. تُزاد على هذا نسبة البطالة التي سوف تتخطى 40% هذه السنة في لبنان، ووجود عدد ضخم من العمالة في القطاع العام يعاني منها البلَدان، ودين عام متشابه ونمو اقتصادي متقارب”، يقول خبير اقتصاد النفط وتنمية الموارد البشرية فادي جواد.
لبنان vs اليونان
ولكن الاختلاف، بحسب جواد، كبير جداً لصالح لبنان “حيث أن معظم الدين العام اللبناني داخلي وهو محمول من المصارف اللبنانية ومصرف لبنان و80% منه بالليرة اللبنانية، بعكس الديون اليونانية القائمة على الديون الخارجية بنسبة 90% لمصلحة الاتحاد الاوروبي وصندوق النقد الدولي والمركزي الاوروبي. أما بالنسبة لاستحقاقات لبنان الدولية، فهي لا تتجاوز 2.5 مليار دولار سنوياً مقارنة بحوالى 20 مليار دولار لليونان. أما ودائع البنوك اللبنانية فقد بلغت 180 مليار دولار بينما وصلت إلى حوالى 120 ملياراً لصالح المصارف اليونانية مع عدد سكان يقارب 10.5 ملايين في اليونان مقابل حوالى 4.5 ملايين في لبنان”.
الباحث في هارفرد دان قزي يرى بدوره فروقات كبيرة بين الازمة في لبنان والازمات المشابهة في اليونان وقبرص وحتى فنزويلا.
لجهة الشبه:
– البلَدان لديهما حسابات مصرفية كبيرة بعملة لا يستطيعان طباعتها. فمعظم الودائع في المصارف اللبنانية هي بالدولار الاميركي، فيما الودائع في المصارف اليونانية هي باليورو.
– البلَدان يعانيان من انخفاض السيولة في عملة الإستيراد وتسجيل الأسواق نقصاً في العديد من السلع والخدمات.
أما أبرز أوجه الإختلاف فتتمثّل في:
– وجود معطيات داخلية وخارجية وقرار دولي بمنع إنزلاق لبنان إلى المجاعة، كما حدث في فنزويلا على سبيل المثال. فهناك اليوم برنامج معدّ للبنك الدولي لحوالى 500 الف مواطن بقيمة 700 مليون دولار للوقاية من الجوع.
– هناك عشرات آلاف اللبنانيين المنتشرين في دول العالم سيعاودون تحويل الأموال إلى ذويهم في لبنان، خصوصاً مع سماح المصرف المركزي لشركات تحويل الاموال دفع المبالغ المحولة بالدولار الاميركي.
هذا لا يلغي، بحسب قزي، “المعاناة والصعوبات حيث سنشهد في المرحلة المقبلة فقدان كثير من السلع، وتحديداً الفاخرة منها، نتيجة إحجام التجار الذين يتقاضون الاموال عبر الـ “لولار” عن استيرادها بسبب تضييق المصارف وعدم السماح بإخراج الاموال”.
المعالجات تختلف أيضاً
في الوقت الذي اعتمدت فيه اليونان على صندوق النقد الدولي للخروج من الأزمة، يرى جواد أن “بمقدورنا معالجة الوضع الاقتصاي داخلياً عبر الإجراءات التالية:
– وقف الهدر والقضاء على الفساد، واستعادة الاموال المنهوبة.
– مكافحة التهرب الضريبي الذي يبلغ حوالى 4 مليارات دولار سنوياً.
– إستعادة الاملاك البحرية والنهرية التي تقدر بحوالى 60 مليار دولار.
– وضع هندسة مالية تتكون لمصلحة الدولة وليس المصارف كما حدث في الفترات الماضية حيث تضخمت أرباح المصارف إلى 20 مليار دولار، بشكل لم يسبقها اليه أي قطاع مصرفي حتى في سويسرا وأهم الدول الغنية مثل دول الخليج.
– معالجة مشكلة الكهرباء التي تكلف سنوياً حوالى مليارَي دولار.
– تأهّل لبنان فور اكتشاف أول بئر نفطي لدخول نادي الدول المنتجة للنفط ما سيؤثر على تصنيفه الإئتماني ويعزز وضعه الاقتصادي.
– إمكانية تحقيق فائض يصل الى مليارَي دولار سنوياً في السنتين القادمتين في حال وجود قرار سياسي حقيقي.
بدوره يلفت قزي إلى ان “الإنهيار الشامل مستبعد، ولبنان لن يتخلّف عن سداد استحقاق شباط القادم المقدّر بحدود 1.2 مليار دولار. ذلك أن هناك نية بالمحافظة على سمعة لبنان نظيفة واستعادة ثقة المجتمع الدولي، وتحديداً في حال أراد في المستقبل الاستدانة من اجل المشاريع وتشجيع المستثمرين للإستثمار في لبنان”. بالإضافة إلى الإصلاحات يُشدد الخبراء على ضرورة قوننة الـ “كابيتال كونترول” كي تتوقف مهزلة الاستنسابية وامكانية محاسبة المُخلّين بالقانون.
ولمعالجة تداعيات هذه الازمة، يُشدّد جواد على ضرورة “خلق خلية أزمة اقتصادية فوراً، لتحويل لبنان من اقتصاد ريعي الى اقتصاد منتج، وتخفيض معدل الفوائد بالعملة اللبنانية والاجنبية لتحريك العجلة الاقتصادية وقبول البنوك لسندات خزينة بفائدة صفرية، دعماً منها للخروج من الازمة الحالية كما حدث في سنة 2002 عندما وصلت نسبة الدين العام الى 180 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بالحالي الذي يبلغ حوالى 152 في المئة”.