Site icon IMLebanon

غريغوار حداد 

«الحاكم اللي زهد في الملك واللذات والزاهد اللي حكم ضد الهوى والذات مات المسيح النبي ويهوذا بالألوفات« (أحمد فؤاد نجم)

من رواية «حكايات أبو النور» وهي ذكريات محمد علوش الطرابلسية، جزءٌ عنوانه غريغوار حداد هذا نصه: «لقد دفعتنا قلّة الحيلة إلى إقفال مستوصف باب التبانة، فأدخلنا الحزن على قلب المطران غريغوار حداد، وهو من كان يؤمّن لنا الأدوية من الحركة الاجتماعية التي كان يرأسها«.

منذ أيام سمعت بأن أحد الشبان الموتورين قام بصفع هذا الرجل الجليل فأوقعه أرضاً فكتبت عنه «صفعة هزت الضمائر!»، قلت فيها:

«بعد كل ما قدمه من انفتاح واجتهاد وتعميم للفكر المسيحي الإنساني، فهل هذا الوصف ينسحب على كل كبار الكنيسة، وهل هو قابل للتطبيق في أيام الجنون التي نحياها؟ 

ليس غريغوار حداد أول ضحايا الظلمة الدينية، ولن يكون الأخير، ومن هنا أحسست أنا، الذي عرف هذا الرجل عن قرب، وعاش تجربته الإنسانية في الحركة الاجتماعية حتى حلول نكبة الحرب الأهلية، أن الصفعة الجاحدة التي تلقاها تلف بصري وبصيرتي بغيمة خوف وحزن سوداء. أنا ليس عندي حلم المطران الكبير لأقف وأغفر لمن أساء إليّ وأقدّم خدي الأيسر لليدِ الظلامية التي صفعتني، فالرجل نذر نفسه لخدمة الناس، وأشعل شمعة في دهاليز المجتمعات المحرومة المسحوقة المرمية والمنسية، وحمل نفسه بلباسه الأسود البسيط وياقته البيضاء ليجول في أزقة باب التبانة المسلمة، مستجيباً لنداء رسولي إنساني عميق، ساعياً كما قال يومها: «معرفة أحوال وحاجات الناس في بيوتهم الرطبة وسماع شكواهم والمشاركة معهم بآلامهم«.

عرفنا يومها كم يتألم هذا الإنسان من آلام الآخرين لدرجة انقسامه على الذات مجسداً قول رأس الكنيسة الأول بولس الرسول: «مسكين أنا، منقسم على ذاتي«!

صفعة الجهالة حركت الإنسان بداخلي وأنا أستعيد حقبة من العمر كنا نستمع فيها إلى المطران يحاور أئمة الجوامع في التبانة حول أهمية الإنسان ككائن خلقه الله على مثاله ومنحه العقل ليميز بين الخير والشر. لا أنسى كيف كان يرشدنا للقيام بواجباتنا نحو أهلنا ومجتمعنا، ودرّبنا على كيفية التعاطي مع الناس والتعاطف مع المحرومين.

من معرفتي بالمطران لم يكن بإمكاني أن أقف على الحياد بين كبير من المسيحية وآخر ظن أنه يحتكر حقيقة المسيح، فقد كان غريغوار حداد أبعد من طائفته ومن دينه ليصبح جسداً ودماً يقدم قرباناً للبشرية جمعاء…»، انتهى الاقتباس.

سامحك الله يا سيدنا، فأنا ما زلت أذكر حتى اليوم كيف تسبّبت بطردي من حصة التعليم المسيحي في مدرسة الكرملية بعد سنوات طويلة كنت أتباهى فيها بحفظي الإنجيل أحسن من كل رفاقي المسيحيين.

كانت أسابيع قليلة قبيل انتشار وباء الحرب الطائفية، وكنت أناقش راهباً شاباً أتى مؤخراً لتعليم الديانة المسيحية في مدرستنا. كنت أدافع عنك وعن مواقفك التي ألهمتنا في شبابنا اليساري، مؤكداً بأنك أنت تجسد حقيقة المسيح الطوباوية بالزهد والعمل لخدمة الناس.

بعد جدل وصل فيه الأستاذ إلى حائط مسدود، سألني غاضباً عن اسمي، ولما أجبته، ارتاحت تقاسيمه وقال لي ببرودة بالغة: «أنت مطرود من الحصة فلا مكان لمسلم في حصة الديانة المسيحية«.

دافعت عنك أيها الحبيب لأنني كنت أنا قبل سنوات قد اختبرت دفء يدك يوم كنت أمسك بها، معتقداً أنني أقودك كدليل في الزواريب الضيقة في باب التبانة.

عدّة عقود مرّت وأنت في ذاكرتي، قديس وولي من أولياء الله الصالحين ومناضل أممي، ولكنك قبل كل شيء إنسان.

()عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»