كلام في السياسة |
منتصف التسعينات كان للبنان وزير خارجية اسمه فارس بويز. وكان طبعاً صهر رئيس الجمهورية، يومها، الراحل الياس الهراوي. وكان العهد الأول بعد الطائف، عهد تكريس الوصاية السورية الكاملة. رغم جهد بويز للحفاظ على هوامش سيادية أو شكل دولتي. لكن البلد كله يومها كان تحت جزمة غازي كنعان.
في تلك الأجواء ذهب بويز ذات يوم من تلك الحقبة المستعرة باستحقاق رئاسي وشيك، في زيارة أوروبية. جولة مباحثات وحوار أورو ــــ متوسطي، انتهيا إلى توقيع وزير الخارجية اللبنانية، بالأحرف الأولى، على إعلان تفاهم لبناني ــــ أوروبي حول انضمام بيروت إلى اتفاقية الشراكة الأوروبية المتوسطية. أنجز بويز ما اعتبره صلاحية دستورية كاملة، فضلاً عن كونه واجباً سيادياً ومصلحة وطنية بامتياز، من دون استشارة ولا إذن. ثم قفل عائداً إلى بيروت. طبعاً لم يكن الوزير الشاب يتوقع في مطار بيروت احتفالية نصر بما حققه. فالبلد كان يومها غارقاً، حتى رأسه، في الصراع على استرضاء حافظ الأسد لتعيين رئيس الجمهورية المقبل. وكانت الأسلحة كافة مسموحة في تلك المعركة، من الضرب تحت الزنانير، إلى رفع الفائدة إلى 45 في المئة، لإفادة خمزتشية الاستحقاق.
وصل بويز إلى بيروت. لم يكد يستقل سيارته، حتى همس في أذنه مرافقه العسكري: سنذهب مباشرة إلى مجلس الوزراء. فهناك جلسة استثنائية وهم ينتظرونك. فوجئ وزير الخارجية بالخبر. فبحسب علمه ومتابعته، لا شيء استثنائياً في البلد. ولا كارثة طبيعية أو حرباً أو طارئاَ مما يستوجب عقد جلسة خاصة لحكومة محكومة أصلاً. وصل الوزير إلى القصر ودخل قاعة مجلس الوزراء سريعاً، ليجد أمامه سحنات سوداء ووجوهاً مكفهرة. استعلم سريعاً من أقرب الوزراء إليه جلوساً، ففهم أن «الجماعة» أصابهم جنون مما ارتكبه. إذ كيف يوقع على قرار الشراكة الأوروبية من دون التنسيق مع دمشق؟! فوراً طلبت جوقة الزجل الشامي الكلام وأطلقت سوق عكاظها: التكامل بين البلدين التوأمين، تلازم المسارين، أمن لبنان من أمن سوريا والعكس، التزام مضمون الطائف لجهة العلاقات المميزة… إلى آخر المعزوفة الانكشارية. أفرغ الزجالة ما في بطونهم، قبل أن يطلب بويز الرد. شرح لمجلس الوزراء مطولاً صوابية ما أنجزه. أن الاتفاق ضرورة لبنانية. وأنه مصلحة للبنان في حاضره ومستقبله. وأن المسألة سيادية بامتياز. وأن إيجابياتها على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية وسواها جمة. وأن دول المحيط قد بدأت فعلاً سياقات مماثلة. ثم عرج على « بيت جرب» الزجالة. فحكّ لهم وحكى أن توقيع لبنان قبل سوريا هو مصلحة سورية أيضاً، لأسباب لبنانية وسورية… كل ذلك من دون جدوى ولا من يسمع أو يقتنع. طال السجال حامياً عاصفاً، حتى طلب الزجالة وقتاً مستقطعاً للتشاور. غادرت زمرة منهم قاعة مجلس الوزراء، ولبث الآخرون ينتظرون. نصف ساعة. أكثر. حتى سأل بويز عنهم. فقيل له إنهم حشروا أنفسهم في زاوية من القصر الرئاسي، متراكبون فوق اتصال هاتفي يتناوبون عليه. ذهب وزير الخارجية إلى الزجالة المتشاورين. أشرف عليهم من فوقهم بقامته المديدة، سائلاً ماذا يفعلون. فهمس أحدهم أنهم في اتصال مع «أبو جمال» لأخذ الأوامر. ابتسم بويز وقال لهم، أعطوني الهاتف. أخذ السماعة وبادر إلى الكلام مع نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام. سأله عن المشكلة. فأجابه خدام أن زملاءه يشكون إليه ما أقدم عليه ويشتكون عليه. شرح بويز لخدام الموضوع. وأوحى له أن المسألة منسّقة مع «الرئيس». تراجع خدام فوراً. مقتنعاً مؤيداً ومزايداً. فقال له بويز: أعط تعليماتك إذن للإخوان كي نكمل الجلسة. رد بويز سماعة الهاتف للزجالين، فألصقوا آذانهم بها، ليتبلغوا التعليمات الجديدة: لا مشكلة في الاتفاق. عودوا إلى القاعة وتابعوا العمل. أقفلوا الخط مرتاحين منشرحين. قبل أن يوزعوا ضحكاتهم الصفراء على بويز. مستدركين مبررين. أحدهم اقترب منه، بلغت وقاحته أن همس في أذنه، بلغته الفرنسية الطليقة: هكذا أفضل لك. أردت بذلك أن أحميك!
أبشع ما في تلك الواقعة أن الوزير نفسه، استمر وزيراً بعد زوال الوصاية. لا بل صار صقراً من صقور السيادة. يحاضر في معانيها وفي مقتضيات الاستقلال ومفهوم الحرية وخصائل العنفوان الوطني. وأنكى ما في بشاعتها، أن الشخص نفسه كرر المسرحية نفسها أمس. وزير خارجية لبنان، يتمسك بسياسة النأي بالنفس عن صراع الأصدقاء والأشقاء. يتفهم موقفه كل العرب. حتى وزراء خارجية الخليج. ليخرج في بيروت صوت نشاز: هذا الموقف هو ضرب لمصالح اللبنانيين في الخليج. ماذا يعني ذلك؟ إما أن الصوت الانكشاري يهين الأشقاء الخليجيين، بتصويرهم انتقاميين ثأريين كيديين، يستعدون لإبادة مئات الآلاف من اخوتهم اللبنانيين العاملين في بلادهم، المساهمين في ازدهار اقتصادهم. وإما أنه يحرض الأشقاء على أن يكونوا كذلك، وأن يعمدوا إلى الاقتصاص من مئات آلاف مواطنيه، كرمى لأطماعه الثابتة في الوساخة، المتبدلة في تسول الوصاية… في كل الرواية ثابتتان: أن العرب ليسوا كما يتمنى الصوت النشاز. وأن صاحب الصوت قد زرع جزمة الغازي في كل كيانه.