الإختراق الدبلوماسي الذي حققه الرئيس نجيب ميقاتي في باريس على أهميته، إلا أنه كان متوقعاً، نظراً للدور الذي لعبه فريق الأزمة اللبنانية في الأليزيه في التمهيد لوصول رئيس الحكومة إلى السراي، والمساهمة في إزالة العديد من العقبات من طريق الولادة الحكومية.
وبينما كان الرئيس سعد الحريري يستعد للخروج من قطار التكليف بناءً لنصيحة فرنسية، كان فريق الأليزيه يعمل على إعداد طبخة بديلة بالتعاون مع «مجموعة ميقاتية»، يقودها الشقيق الأكبر وصاحب الباع الطويلة في نسج وتعزيز العلاقات السياسية، رجل الأعمال طه ميقاتي وصهره قنصل لبنان السابق في موناكو مصطفى سميح الصلح.
وفي ظل الغياب العربي عن لبنان، بإستثناء الحضور المصري المتفاعل مع مختلف الأطراف السياسية، لم يتردد الرئيس ماكرون عن الإتصال بمثيله الإيراني إبراهيم رئيسي، لإزالة ما تبقى من عراقيل أمام ولادة الحكومة برئاسة نجيب ميقاتي، الذي كان بحنكته وبراعته في تدوير الزوايا، قد قطع شوطاً في تعطيل الألغام التي إعترضت سبيل سلفه سعد الحريري.
وأهمية الدعم الفرنسي لبلد الفرانكوفونية في الشرق تكمن بما يشكله كقاطرة للمساعدات الأوروبية من جهة، وبما يساهم في فتح قنوات الحوار مع صندوق النقد الدولي من جهة ثانية، وبالتالي يُعجّل في إستعادة الثقة الخارجية بالدولة اللبنانية.
ولكن رئيس الحكومة يدرك أكثر من غيره في السلطة الحالية، مدى أهمية العمل على إعادة فتح قنوات الحوار والتعاون مع الدول العربية، وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي، التي إبتعدت عن الشقيق المشاغب في السنوات الأخيرة، بسبب الخلل الذي ضرب سياسته الخارجية في العهد الحالي، وأدّى إلى وقف المنحة السعودية المليارية للجيش اللبناني التي حصل عليها الرئيس ميشال سليمان كهبة للبنان من المغفور له الملك عبدالله بن عبد العزيز، كما تسبب هذا الشطط في السياسة الخارجية إلى تجميد كل المساعدات والقروض الخليجية بعد تكرار هجمات حزب الله الإعلامية والسياسية على القيادات الخليجية، ومشاركته في تدريب الحوثيين في حرب اليمن. وبلغ السيل الزبى عندما تغاضت الدبلوماسية اللبنانية عن الهجمات الحوثية المتكررة على المرافق المدنية والإقتصادية في السعودية، وما تبعها من تصويت لبناني ضد المجموعة العربية التي وقفت إلى جانب المملكة في دفاعها عن أمنها القومي.
ليس من السهل على رئيس الحكومة إختراق هذا الواقع المؤلم مع الأشقاء الخليجيين، لأن أي مبادرة خليجية جدية وفاعلة تجاه لبنان يجب أن يسبقها تغيير واضح في السياسة الخارجية اللبنانية، وعودة لبنان إلى الصف العربي، وإستعادة توازنه الحيادي في صراع المحاور في المنطقة.
ورغم هذه الصعوبات لم يتأخر الرئيس ميقاتي عن رمي شباكه في المحيط الخليجي، معتمداً على صداقات شخصية، وعلى رصيد مواقفه المعروفة في حكومته المثيرة للجدل عام ٢٠١١ ، ويحاول الآن أن يجد راعياً من الأشقاء الخليجيين لملف الكهرباء للتعجيل في إيجاد الحلول الجذرية لهذه المعضلة المزمنة، والتي نغّصت حياة اللبنانيين عقوداً من الزمن.
ليس من المتوقع أن تلقى محاولة ميقاتي التجاوب السريع، إذ أن التراكمات السلبية، وفقدان الثقة بالسلطة الفاسدة، وتجربة الصندوق الكويتي مع وزير الطاقة جبران باسيل في حكومة ميقاتي السابقة، الذي رفض يومها عروض التمويل في إنشاء محطات توليد للطاقة جديدة، وإعادة تأهيل شبكات التوزيع، كلها نقاط ستكون مدار بحث عندما تدق ساعة الجلوس إلى طاولة التفاوض، في حال تنقية أجواء العلاقات الأخوية مع الأشقاء الخليجيين.
ولعل دولة الكويت هي الأقرب إلى ملف الكهرباء في لبنان بحكم الدراسات المعمقة التي أجراها صندوق التنمية الكويتي، ولكن مثل هذه الخطوة لا بد أن يسبقها تذويب الجليد الذي يهيمن على العلاقات الخليجية مع لبنان، وتصحيح مسار السياسة الخارجية اللبنانية، ولو وفق التجربة العراقية الحالية التي أثبتت نجاحها في إعادة بغداد إلى مكانتها العربية، وقيام رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي بدور الوسيط بين دول الخليج العربي وإيران.
وإذا كانت الأزمة الصامتة بين لبنان والمملكة العربية السعودية تحتاج إلى كثير من الجهد والوقت، فمن المستبعد أيضاً أن يظهر جدول زيارات رئيس الحكومة إلى بعض الدول الخليجية، الكويت وقطر مثلاً، قبل أواسط الشهر المقبل، علّ الحكومة الجديدة تكون قد اتخذت بعض الخطوات التي تساعد على تحقيق بعض الإنفراجات مع الأشقاء الخليجيين.
ويبقى من الأهمية أن نتذكر دائماً: أن لبنان عربي الهوية والإنتماء، وخروجه من هذا الواقع يكون أشبه بقفزة السمكة الانتحارية خارج المياه.