اذا كان البعض يظن ان تيار المستقبل بقيادة الرئيس فؤاد السنيورة يصعد من خلال شن هجوم مضاد ودفاعي على تهم الفساد التي توجه اليه، عبر استهداف الجنرال ميشال عون والتيار الوطني الحر، فهو مخطىء، رفع سقف المواجهة مع «التيار البرتقالي» يتزامن هذه المرة مع رفع في مستوى المواجهة السياسية والاعلامية مع حزب الله، الترجمة العملية كانت على طاولة الحوار، وعبر «افتعال» مناوشات مناطقية ضد «سرايا المقاومة». ثمة معطيات جديدة تقف وراء هذا التصعيد، فما هي؟ وما هي خلفياته؟
اوساط سياسية مطلعة على ما يدور في«كواليس» «التيار الازرق» تشير الى ان الامر مرتبط بقراءة خاصة لتطورات الاوضاع في سوريا، مصدرها اوساط استخباراتية خليجية، تفيد بان الحراك الروسي العسكري الراهن «استعراضي»، وهو لا يستهدف حماية النظام من السقوط، بقدر ما يحاول فرض امر واقع على الارض لحماية وإدارة المصالح العسكرية الروسية بعد السقوط المحتم للدولة السورية، وفي رأي هؤلاء فان موسكو بدأت تنفيذ «الخطة ب»، القائمة على إدارة الاوضاع في الساحل السوري للحفاظ عليه كقاعدة رئيسية لها على المتوسط، بعد ان بات واضحا لديها أن باب المفاوضات قد فتح جديا حول مصير سوريا، ولذلك فهي تستعجل الحضور الميداني، لتعزيز وسائل تفاوضها، تريد ايضا ان تكون موجودة على الطاولة بصفتها طرفاً عسكرياً فاعلاً على الأرض وليس فقط دولة حليفة «للنظام السوري». وبحسب المعلومات «المستقبلية» فان موسكو تريد حصتها بعد تفكيك بنية النظام ومؤسساته الأمنية والعسكرية، وهي تبحث عن حصتها في «الكعكة» السورية، وتنسب الى اوساط امنية قطرية قولها ان الاستخبارات الروسية ابلغت الرئيس فلاديمير بوتين بان المعطيات العسكرية تؤكد ان الرئيس الأسد لا مستقبل له، الا اذا وافق على صيغة حل تختصر حدود نفوذه في منطقة الساحل.
اما البعد الاخر في التحرك الروسي فيرتبط بحسب «عبقرية» الرؤية القيادية في «التيار الازرق» بـ «رسالة» شديدة اللهجة موجهة الى ايران، وتتحدث تلك الاوساط في مجالسها الخاصة عن معلومات مؤكدة حول خلاف ايراني – روسي على النفوذ في سوريا، وعن تململ روسي- سوري مشترك من «سطوة» ايرانية على القرار السياسي والعسكري في البلاد، ولذلك قررت موسكو التدخل لسحب «أوراق اللعبة» السورية من طهران!
طبعا، هذا التحليل «السخيف» للتطورات الميدانية والسياسية، بحسب توصيف اوساط في 8 آذار، يفسر جزءا من حالة الارتياح السائدة لدى قيادة «المستقبل» التي تحاول ملاقاة هذا التطور بالتماسك والتصعيد على الساحة اللبنانية بانتظار تبلور الصورة بشكلها النهائي، ولكثرة افراطها في التمسك «بخشبة خلاص» تنجيها من الغرق، تتجاهل عن سابق تصور وتصميم تقارير غربية ذات مصداقية عالية تتحدث عن خطة روسية ــ إيرانية مشتركة، أقرّت في موسكو بين مسؤولين إيرانيين وروس، خلال زيارة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الايراني الجنرال قاسم سليماني الى روسيا، تقضي بالتدخل العسكري المباشر للجانبين في القتال الى جانب الجيش السوري، بالتنسيق التام مع الدولة السورية. ووفقا لهذه المعطيات فان الاتفاق يسمح للروس بانشاء قاعدة بحرية جديدة واعادة تجهيز مطار «حميميم» العسكري قرب اللاذقية ليتسع لمئات الجنود، وثمة معلومات عن وصول طائرات شحن تحمل عتادا عسكريا وسفن إنزال ودبابات حديثة وقوات من مشاة البحرية الروسية، وتزويد الجيش السوري بمعدات ووسائل قتالية دقيقة ومتطورة، وتقديم معلومات استخبارية محدثة عبر الاقمار الصناعية، كما يسمح الاتفاق للضباط الروس بقيادة الطائرات الحربية في الاجواء السورية والمشاركة في العمليات العسكرية. تنفيذ الخطة بدأ عمليا من خلال إقامة بنية تحتية على الساحل السوري تسمح بالبدء بتنفيذ العمليات العسكرية. اما «الشق الايراني» من الخطة فيقضي بنشر قوات من الحرس الثوري في مناطق استراتيجية لتغيير موازين القوة على الارض، مع تقديم دعم «لوجستي» نوعي غير مسبوق.
وتلفت تلك الاوساط الى ان القراءة الخاطئة لهذه التحولات يأتي تزامنا مع فشل الرهان على نتائج القمة السعودية – الاميركية، فالملك سلمان فشل في اقناع الرئيس باراك اوباما بتغيير استراتيجيته في سوريا، بعد رفض الرئيس الاميركي لاي تدخل ضد النظام واكتفائه بدعوته الرياض الى زيادة التنسيق حول مكافحة «داعش»، وفشل الملك ايضا في التوصل الى تفاهم واضح حول سبل مواجهة ما تسميه الرياض احتواء أنشطة طهران المزعزعة للاستقرار في المنطقة، كما لم يتمكن في الحصول على تعاون أميركي لوجستي واستخباراتي أكبر في الحرب التي تقودها بلاده في اليمن. أوباما كان منتشيا بانتصاره على رافضي الاتفاق النووي مع إيران في الكونغرس الأميركي، فخسر الملك سلمان «ورقة «ضغط مهمة كانت بين يده وتحولت المعارضة السعودية والخليجية للاتفاق الى مجرد «ثرثرة» «لا تثمن ولا تغني من جوع». فشل الجانبان في التفاهم على اولويات المرحلة، فواشنطن تسعى لتوفير عناصر نجاح تنفيذ الاتفاق النووي مع إيران، ولم يبق امام السعودية سوى إعادة صياغة علاقة استراتيجية أمنية جديدة مع الولايات المتحدة تضمن لها الحفاظ على الامن الخليجي. ماذا يعني هذا الكلام؟
يعني ان واشنطن ليست في صدد اتخاذ اي رد فعل عملاني تجاه «التدخل» العسكري الروسي والايراني في سوريا، والامر سيبقى مقتصرا على مكالمات بين وزير الخارجية الأميركية جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف، ومواقف من الخارجية والبيت الابيض تقتصر على إبداء «القلق البالغ». هذا البرود الأميركي والغربي يشير الى «تسليم» بالقضاء والقدر الروسي في سوريا، وهو امر شديد الوضوح ترفض ان تصدقه قيادة تيار المستقبل ورعاتها الاقليميون هم يعتقدون ان سوريا ستتحول الى «افغانستان» جديدة للقوات الروسية، كما ظنوا سابقا انها ستتحول الى «فيتنام» حزب الله، لكن نحو ثلاث سنوات من دخول المقاومة الى ساحة المواجهة غيرت وجه المنطقة. هذا ما حققه حزب محدود بمقدراته العسكرية والديموغرافية، فهل من داع للسؤال عما يمكن ان تحققه القوات الايرانية والروسية اذا ما صحت الروايات المتواترة والتي تشير الى انهم ليسوا «قادمون» بل وصلوا.
ازاء تناقض الروايات والتحليلات، يبدو الامر الاكثر وضوحا ان تيار المستقبل يخوض هوايته المفضلة «بالمغامرة» بناء على معلومات ومعطيات «ركيكة» غير مطابقة للمواصفات السياسية والعسكرية والاستراتيجية، ثمة رهان جديد على تحقيق انجازات على الساحة اللبنانية، انطلاقا من حسابات خاطئة في سوريا، مشهد ممل تكرر على مدى سنوات الصراع الخمس، لكن لا شيء لدى «التيار الازرق» ليخسره، يريد منع «خصومه» من تحقيق اي انجاز، يسعى لابقاء لبنان ضمن دائرة الحلول التوافقية سعيا للحفاظ على حصته، لا يرغب بدفع اي ثمن، هو يعرف ان مكانه محجوز على «الطاولة» بسبب التركيبة المذهبية «العفنة»، لذلك فهو غير مستعجل لانضاج الحلول طالما ان رعاته الاقليميين «ينصحونه» بالانتظار، يواكبهم بالتصعيد «المضبوط» خوفا من الانزلاق الى مواجهة محسومة للطرف الاخر، وذلك على الرغم من ادراكه ان كل «التخريفات» السابقة حول الخلاف بين اعضاء «محور المقاومة»، وحول انهيار قريب للدولة السورية، مجرد «اوهام».