IMLebanon

…لذا لم يتوقَّف التطبيع

 

خاب الذين جزموا بأنّ عملية «طوفان الأقصى» وما تلاها من حرب وَلَغت فيها إسرائيل بدماء أطفال غزة سيؤدّيان حتماً الى تجميد مسار التطبيع الخليجي وربما تمزيق «الاتفاق الابراهيمي».

 

ولا تختلف نوعاً حملاتُ «الإعلام الممانع» على «المطبِّعين»، عن دعوات ما اصطلح على تسميته الفريدة «الشارع العربي»، الذي حين يصرخ «أين العرب؟» يوجِّه تهمة التقصير الى الخليج. والمفارقة أنّ المساعدات المادية الفعلية لأهل القطاع المنكوبين والمساعي السياسية ذات الثقل للخروج من نفق الحرب، تأتي من الدول التي تتلقّى سهام الشعبويين، لا من محور ايران الذي يرفع شعار «تحرير الأقصى» مقاتلاً بالآخرين، ولا من روسيا بوتين التي بادرت الى استقبال وفد «حماس» غداة 7 اكتوبر… و«كان الله يُحب المحسنين».

 

ولعل الصدمة الأبرز أتت من مصافحة أمير قطر الرئيس الإسرائيلي في مؤتمر المناخ الأسبوع الماضي في دبي، ما دلَّ على أنّ «حرب غزة» لم تبدِّل خيارات دول الخليج الاستراتيجية، وأنّ مسار التطبيع محكوم بسرعات متفاوتة تقرِّرها الدول المنخرطة فيه، ولا يرضخ لأمر واقع شاءت فرضه عملية «طوفان الأقصى» التي ما كانت لتتم بلا تخطيط ايراني وتوقيت سياسي غير بريء.

 

واقع الأمر أنّ العودة الى رومانسية «القضية المركزية» في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، والتي هزمتها الوقائع المرّة «من المحيط الهادر الى الخليج الثائر» صارت من الماضي السحيق. فلا ننسى أنّ 75 عاماً من النزاع العربي الإسرائيلي هو زمن طويل، تعاقبت خلاله ثلاثة أجيال، وتطورت مفاهيم وقيم، وبرزت أولويات تتفاعل وعالم انتقل الى الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، وأنّ معظم حكام الخليج صاروا من جيل مختلف يفهم العلاقات الدولية والأخوَّة العربية بذهنية المنفعة المتبادلة والمصالح الوطنية، بعدما أسقط معظم التابوهات وتعلّم من الحياة وتجارب الأهل والأجداد.

 

بات بائساً إلقاء اللوم على «الأنظمة العربية» ومطالبتها بالانخراط غير المحدود في الصراع، كلما قرّر تنظيم مسلح خوض حرب مع إسرائيل. وإذا كان من دواعي الافتخار استذكار قرار الملك فيصل استخدام سلاح النفط تضامناً مع مصر وسوريا إبّان «حرب تشرين» في 1973، فإنّ من المضحك المطالبة باستنساخ خطوة اتخذت قبل نصف قرن ضمن ظروف تنتمي الى ذاك التاريخ.

 

أمّا أخطر ما تعرضت له القضية الفلسطينية وتسبب بتحولها من «قضية مركزية» مقدسة الى «مشكلة سياسية» مزعجة، فهو اختطافها على التوالي من قِبل الأنظمة الديكتاتورية القومية ومن التيوقراطية الإيرانية. فتحْت شعارات القومية القذَّافية والبعثية بفرعيها السوري والعراقي والتي تكسّبت على مظالم فلسطين، تربّعت سلطات الاستبداد واستبيحت حريات الشعوب وجرى احتلال الكويت. وفي ظل الدعوات الدينية الإيرانية الى تحرير القدس تمت الهيمنة على أربع عواصم عربية وتَهدَّد أمن دول الخليج، سواء بالتدخل في نسيجها أو بإشعال حدودها وفق النموذج الحوثي.

 

ما تقدَّم غيضٌ من فيض، لأنه لو عدنا الى السبعينات لتَذكّرنا «أيلول الأسود» الفلسطيني- الاردني في 1970، و«حرب السنتين» في لبنان التي كان لمنظمة التحرير يد طولى في اشتعالها في 1975. والأمثلة لا تحصى عن أحداث تسببت بتحولات جعلت الواقعية تطغى على العواطف. وهكذا، فإن التطبيع في الخليج، ورفض الانزلاق الى الحرب في لبنان، لم يأتيا من فراغ بكل تأكيد.

 

ملاحظة أخيرة: إذا كان صراخ «اين العرب؟ وامعتصماه» لا يقدِّم شيئاً للقضية وأهلها، فلماذا لا يصرخ «الشارع الممانع»: «أين العجم؟ واخامنئي»، لنرى ماذا سيفيد.