يكشف مطّلعون أنّ هناك مَن قام في شكلٍ متعمَّد ومدروس بتصوير محطّات الاستقبال التي أقامها اللبنانيون الشيعة والسنّة، كلٌّ لمناصريه من السوريين الوافدين إلى لبنان، تنفيذاً لصفقة الزبداني-إدلب قبل أيام. وقد جرى إرسال الأفلام ضمن تقارير دولية لإثبات حجم الاختلاف بين المكوِّنات المذهبية والطائفية اللبنانية. ووفقَ هؤلاء المطّلعين، فإنّ ترتيب هذه الاستقبالات كان أحياناً نتيجة قرارات مدروسة بعناية.
في 2016، سيزداد لبنان فرزاً مذهبياً وطائفياً، نفسياً واجتماعياً على الأقلّ، بسبب إصرار العديد من القوى على ربط لبنان بالصراع المذهبي الإقليمي من سوريا إلى اليمن. وفي آخِر الفصول، جاء التوتّر اللبناني الداخلي على خلفية إعدام الشيخ نمر النمر في السعودية.
قبل ذلك، جاءت صفقة المقايضة العسكرية-الديموغرافية بين الزبداني وإدلب في سوريا، حيث يقدِّم «حزب الله» نخبة مقاتليه لحماية الشيعة والعلويين هناك. وفي موازاة انخراط «الحزب»، تتورّط في سوريا جماعات لبنانية سنّية متشدِّدة، وتقاتل مع «إخوانها» هناك.
إذاً، لم يعُد وارداً أن يصوغ السوريون لا التسويات ولا الهدنات من دون أن يتأثّر لبنان. وهذه مفارقة تاريخية، لأنّ اللبنانيين ما اعتادوا صياغة تسوياتهم بلا سوريا، وها إنّهم اليوم يحقّقون ما لم يحلموا به، أي المشاركة في صياغة التسويات السوريّة الداخلية!
وبات اللبنانيون والسوريون معاً شركاءَ التسويات هنا وهناك. ولذلك، إنّ انخراط اللبنانيين في صفقة الزبداني يكرِّس الارتدادات الحتمية للحدث السوري على لبنان. وتزداد المخاوف على لبنان لأنّ عودة القوى المتورّطة من سوريا لن تتحقّق إلّا بانتهاء الحرب فيها.
وانتهاءُ الحرب هناك ليس قريباً لأنّ التسويات متعثّرة. وأقصى الطموحات هو تكريس هدنات موضعية ومقايضات عسكرية وديموغرافية صغيرة، انتظاراً للحلول الكبرى والمترابطة شرق أوسطياً، من بيروت إلى طهران مروراً ببغداد وصنعاء وسائر الخليج العربي.
ومع الاهتزاز الذي تَسبَّبَ به تنفيذ حكمِ الإعدام بالشيخ النمر، صبيحة رأس السَنة، توحي الصورة الإقليمية في مطلع 2016 بانهيارات عسكرية واقتصادية تهزّ العديد من الكيانات وتَفتح الباب واسعاً أمام المخارج التي تَرسمها القوى الإقليمية والدولية النافذة.
ويستنتج بعض الخبراء أنّ مثلث سوريا-العراق-اليمن لن يشهَد تطوّرات دراماتيكية عسكرية أو سياسية في المرحلة المقبلة، لكنّ المَحاور المتصارعة ستُبقي النزاع مفتوحاً في الساحات الثلاث، ستُبقيها جاهزة لتبادل الرسائل الساخنة.
لكنّ المخاوف ستكون جدّية على كيانات أخرى في الشرق الأوسط (مصر والأردن ولبنان)، إذ سيكون عليها حماية استقرارها الداخلي. وكذلك ستشتدّ الضغوط على دوَل الخليج العربي ولا سيّما المملكة العربية السعودية بتأثير مباشر من حرب اليمن. وهنا بيتُ القصيد في المرحلة المقبلة.
ويقول محلّلون إنّ طهران التي لم تتدخّل جدّياً للردّ على «عاصفة الحزم»، بسبب انهماكها بالمفاوضات حول الملف النووي، ربّما تقوم اليوم بعمليات سياسية وأمنية ارتدادية، في محاولةٍ للضغط على الخليج العربي، وتهديده بزعزعة استقراره. وهناك أوراق عدة يَعتقد الإيرانيون أنّهم قادرون على أن يلعبوها في هذا المجال.
وربّما يَعتبر الإيرانيون إعدامَ النمر «عاصفة حزم» سعودية جديدة، ويردّون عليها. وهذه المرّة لن يكونوا منشغلين أو محرَجين بالملف النووي، بعدما بات وشيكَ التنفيذ، وسيردّون حيث يرون ذلك مناسباً.
وبناءً على هذه المعطيات، يقول خبراء إنّ الاستقرار الخليجي سيكون قبلة الأنظار في العام 2016، حيث يخشى بعض المطّلعين أن يجري دفعُ «داعش» قصداً في اتّجاه الحدود السعودية، لتخفيف الضغط عن الحوثيين في اليمن.
وكان السعوديون يتريّثون في القيام بخطوات مهمّة، محاذرين أيّ «دعسة ناقصة». لكنّهم ذهبوا إلى المواجهة مع طهران بعدما استنتجوا أنّ الإيرانيين ليسوا في صَدد الاستجابة للمبادرات، سواءٌ في سوريا أو اليمن أو بيروت، حيث جرى تفسير مبادرة الحريري على أنّها علامة ضعف، وقوبِلت بالرفض وطلبِ المزيد من المكاسب.
وفي اعتقاد كثيرين أنّ هناك اهتزازاً جدّياً لوضع الخليج العربي قد يكون آتياً، وإذا حصَل ذلك، فسيؤدّي إلى تغيير العالم العربي نهائياً. ومِن هنا، يُفهَم التحذير الذي أطلقَه النائب وليد جنبلاط قبل مغادرته إلى القاهرة في زيارةِ استطلاع.
ولذلك، كان هناك اتّجاه متنامٍ في الدوَل الخليجية الكبرى إلى مدِّ جسور التفاوض مع طهران، وتقديم التنازلات الممكنة لإنجاز تسويات موضعية في سوريا والعراق واليمن، ما يحدّ من الضغط الإيراني، خصوصاً بعد دخول روسيا الحازم إلى سوريا. لكنّ إعدام النمر أظهَر فشَل المحاولات ورغبةً سعودية في خلقِ توازن رعبٍ وتركِ الباب مفتوحاً للتفاوض من سقفٍ عالٍ.
وفي هذا الإطار، يمكن تفسير الجمود الذي شهدَته الساحة اللبنانية أخيراً، وهو جمود الترقّب والانتظار، إذ أوعَز السعوديون إلى حلفائهم بالمضيّ في التسوية الرئاسية. وفي اعتقاد بعض النافذين في الرياض أنّ تسويةً من هذا النوع ستخَفّف من ضغوط طهران من دون أن تكلِّف السعوديين وحلفاءَهم أثماناً كبيرة.
لكنّ المحاولات سَقطت، ومعها إمكانات التسوية. فالإيرانيون الذين يدركون مَكامنَ القلق لدى خصومهم، يريدون أكبرَ ثمن ممكن لقبولهم بالتسوية. وهذا الثمن يتضمّن مقايضات إقليمية جدّية، خصوصاً بين بيروت ودمشق.
وفي الأسابيع الأخيرة، أظهرَت المؤشرات الماليّة في الرياض ملامحَ سلبية معيّنة. ويَعتقد خصوم السعودية أنّ دورَها كضمان للمال الذي به تَجري تغطية التسويات ليس اليوم في جهوزيته المعتادة. وهناك تأثير كبير للضمانات الماليّة السعودية على القوى الحليفة في لبنان وسوريا والعراق واليمن. وأيّ تراجُع فيها من شأنه أن يترك تداعياته.
في ظلّ هذه الصورة، سيَشهد العام 2016 مزيداً من الانزلاق اللبناني إلى الفوضى التي ستستمر حتى إشعار آخر. وستبقى 14 آذار والقوى الإقليمية الحليفة لها تتطلّع إلى الحسم في سوريا. وأمّا المحور الإيراني فباتَ يتطلع إلى الحسم داخل المنظومة الخليجية نفسها. لكنّ انتظار الحسم طويل هنا وهناك.
فكلّ شيء ينتظر في لبنان، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، بدءاً بملفّ الرئاسة، في ظلّ عجزٍ كامل، حيث يُراد للجميع أن يبقوا في حال استعداد لتلقّي الحلول التي ستفرَض عليهم. وهنا التحدّي: إلى أيّ حدّ سيتحمّل لبنان الاهتراءَ قبل أن يدخل الانهيار الكامل؟
ففي الاقتصاد، يرجّح الخبراء أن يكون 2016 عامَ الاستحقاقات الماليّة التي ستضغَط على اللبنانيين ليقرِّروا إمّا الانهيار وإمّا إعادة البناء. وسيكون مستقبل لبنان رهناً بالطريقة التي سيتمّ فيها التصَدّي للضغوط الدولية، وبمدى قدرة الدولة على الصمود تحت وطأتها. ويحاول المعنيون تأجيلَ الانهيار باستخراج النفط، لكنّ الطريق طويلة إلى ذلك، والتعقيدات متشعّبة.
وسيكون سهلاً بدءُ الدخول في الفدرالية الاقتصادية بعد إعلان إفلاس المؤسسات الوطنية الكبرى. وهذا الحلّ سيكون مركَّباً، بمعنى اعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة والمؤسسات المناطقية لإدارة الموارد في المناطق انتظاراً للحلول الكيانية النهائية. وهذا سيَشمل النفايات والكهرباء والمياه وبلوكات النفط والغاز.
ويقول أحد الخبَراء في هذا المجال: كونوا على ثقة في أنّ الجميع يدرك ذلك ويهَيّئ نفسَه لهذا الخيار، ويستعدُّ للانقضاض على جبنتِه المناطقية. ومن خلال مظاهر الفرز التي تبرز حاليّاً، سيكون متاحاً أخذ البلد إلى المكان الذي يُراد له.
ويَجدر التوقف هنا عند التحذير الذي خَتم به الرئيس نبيه بري عام 2015، من «تطوّرات إقليمية متسارعة لا يمكن التكهّن بنتائجها»، و»ملامح إعادة رسم خارطة جديدة على أنقاض سايكس بيكو».
ويَعتقد كثيرون أنّ سوريا لن تعود موحَّدة أبداً. فإذا تغيَّرَت الخريطة في سوريا والعراق واهتزّت كيانات إقليمية أخرى، تبدو حتى الآن مستقرّة، هل سيكون لبنان خارجَ التفسّخات الموعودة في الخريطة أم جزءاً منها؟ هذا هو السؤال الأكثر عمقاً.
وكيف يكون لبنان خارج الخريطة الموعودة إذا كان اللبنانيون ينخرطون في الحروب والتسويات والمقايضات، من سوريا والعراق إلى اليمن وسائر الخليج، ويحملونها معهم إلى لبنان؟