IMLebanon

“آيا صوفيا”… ليست شأناً داخلياً!

 

أبعد من مجرّد تغيير طابع “تحفة” آيا صوفيا التاريخية من “كنيسة” إلى “مسجد”، فإن للخطوة الشائبة هذه دلالاتٍ رمزية لا يُمكن التغاضي عنها، وهي أنّ “الفاتح” أردوغان خلع عن تركيا “عباءة” أتاتورك العلمانية ليستبدلها بقماشة التطرّف الديني.

 

يتمسّك حاكم تركيا بعصورٍ ظلامية بائدة تقتات من سيف الأديان رغم انتفاء المسوّغ الفعليّ لممارسةٍ من هذا القبيل. ورغم طي صفحة “الفتوحات” الأليمة منذ زمن، يبدو أنّ ذهن “السلطان” المتحجّر ما زال قابعاً في حناياها، وإلا كيف نفسّر دأبه على إحياء جثّة “الحروب الدينية” الهامدة؟ هو المنطق نفسه الذي اعتمدته تركيا المعاصرة منذ زمنٍ، رغم ايحائها “المخادع” بالسير في ركاب التقدّم والانفتاح. وهو منطقٌ ينكر على الأقليات حقّ الاحتفاظ بهويتها الدينية والثقافية ويعطي الغلبة لنهج الاستقواء و”السلبطة” بحجة حربٍ دينية وهمية ضدّ الإسلام طمعاً بمكاسب سياسية. لا تبنّيَ إذاً لمبدأ تلاقي الأديان، بل على العكس إصرارٌ صارخ على العودة الى عصورٍ ظلامية تُشحذ فيها الهمم بعصبياتٍ دينية ضدّ “أطراف عدائية” مزعومة. “إعادة فتح آيا صوفيا أفضل ردّ على الهجمات الشنيعة التي تستهدف قيمنا الرمزية في كافة أنحاء المناطق الاسلامية”، يقول الفاتح الجديد. لا نعرف صراحةً ما هي “الهجمات الشنيعة” التي يتحدّث عنها السلطان “الأصولي الهوى”، فدفتر الوقائع لا يُقيم وزناً وازناً لعملياتٍ إرهابية من مسيحيين ضدّ مسلمين في الشرق الأوسط أو في أوروبا، وإن كان الأمر لا يخلو من بعضها المخجل كمذبحة سريبرنيتسا التي عاقبها الغرب المسيحي نفسه باعترافٍ واضحٍ بارتكاب “إثم الابادة”، وبقصف الأميركيين للصرب بغاراتٍ مميتة فرضت اتفاق “دايتون” للسلام. اعترافٌ غربي مسيحيّ إذاً بجرم الابادة وشجبٌ وقمعٌ لها ميدانياً مقابل إنكار دائم ومخزٍ لتركيا لإبادةٍ أرمنية موثّقة بصور وأدلّة وأرقام لا لبس فيها. وفيما يشهر أردوغان سلاحه ضدّ هجمات “يختلقها” لمسيحيين يفتكون بالمسلمين، يحفل الواقع بأمثلةٍ لا تحصى عن إرهابٍ فعليّ باتجاهٍ معاكس. ثم ما هي هذه القيم النبيلة التي يدّعي نشرها بفكر الأصولية الاسلامية تلك؟ أتراها الهجمات الارهابية الدائمة التي تطاول أقباط مصر بشكلٍ متواتر؟ أم الاعتداءات الدامية على شاكلة ما يحصل ضدّ المسيحيين العزّل في مالي أو نيجيريا أو فرنسا (باتاكلان وتشارلي هيبدو مثالان بسيطان)، أو لعلّها الموبقات التي حلّت بهم في بوركينا فاسو أو هجمات سريلانكا في عيد الفصح أو مجزرة دار الأم تريزا للعجزة في عدن؟ أم تراه يقصد نحر قسيس “سانت اتيان دو روفيري” الفرنسية، جاك هامل، الذي وهب المسلمين وقفاً للكنيسة لبناء مسجدٍ واسع وكرّس لهم مراراً كنيسته للصلاة فدخل عليه ارهابيان ليردّا له الجميل؟

 

يعيش مسيحيو الشرق وأفريقيا على وقع هجماتٍ إرهابية أصولية متتالية، وهم فيما يُنحَرون ذبحاً أو بقطع الأعناق أو تفجيراً، يعبرون الى الحياة الآخرة بصمتٍ ورقيّ، فلا يطالبون بانتقامٍ ولا اقتصاص ممّن أنكروا عليهم بفائضٍ من الوحشية حقّ الوجود لمجرّد اعتناقهم ديناً آخر، بل يسامحون جلادهم تكريماً لدينٍ يُملي عليهم فعل “المحبة”. فأين أردوغان من الفكر المسيحي الحالي النابذ للعنف؟ وهل تنقصنا الأدلة على سلوكه البعيد كلّ البعد عن الانسانية في شمال سوريا مثلاً، وتحديداً في عفرين، وحتى في عقر داره حيث نصف فلاسفة بلاده ومفكريه وأدبائه وأساتذته وقضاته وصحافييه رميوا في السجون وحيث لا احترام لحرية الرأي والتعبير؟

 

يعتبر أردوغان “آيا صوفيا” شأناً داخلياً تركياً وهو مخطئ هنا أيضاً كما عادته دوماً، فالمعلَم هذا إرثٌ إنساني ويخصّ البشرية جمعاء، على اختلاف المشارب والديانات، فللبوذيّ والمسلم وحتى الملحد له فيها بقدر البيزنطيّ نفسه، لأنّها متحفٌ يتجاوز “العامل الديني” نحو فضاءاتٍ رحبة هي ملك التراث العالمي. وليس خوفنا على الفسيفساء البيزنطية في “آيا صوفيا” التي شوّهت بطبقاتٍ من الطين لطمسها، وتضرّرت بالفعل “الشنيع” و”غير الحضاري” بمختلفٍ عن الأسى العميق الذي انتابنا عقب نسف ميليشيا طالبان لتماثيل “بوذا” في باميان بالدبابات والصواريخ لنبذ الاسلام المتطرّف “الأصنام”، أو فتك “الدواعش” بكنوز الآثار العراقية القديمة في متحف الموصل ومدينة نمرود ومدينة الحضر الآشورية، أو حرقهم مكتبة “الموصل” التي كانت تضم نحو ثمانية آلاف من الكتب والمخطوطات النادرة، أو عبثهم المستهجن بآثار تدمر ومعالمها التاريخية.

 

حبذا لو سار أردوغان على خطى الخليفة عمر بن الخطاب، الذي حين دعاه بطريرك القدس لزيارة كنيسة القيامة بعد فتح بيت المقدس، سأل الأخير “أين أصلي؟”، فقال له البطريرك: “هنا في الكنيسة”، فردّ الخليفة: «ما كان لعمر أن يصلي في كنيسة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلى عمر، ثم يجعلونها مسجداً»، ثم ابتعد عن الكنيسة قاب قوسين وصلّى.

 

مرّة أخرى ترفض تركيا العبور نحو التمدّن والحضارة، فهي بتحويلها “آيا صوفيا” الى مسجدٍ إنّما تبرهن أنّها ليست منفتحةً كما تدّعي زوراً. وهي بعقليتها “الالغائية” و”تطرّفها الديني” غريبة عن المبادئ الأوروبية المنادية بتلاقي الحضارات والاحتفاء بالهويات.

 

بإصرارها على إنكار الإبادة الأرمنية بدل التصالح مع ماضيها، وباستمرارها في أطماعها التوسعية وبتهليلها الدائم لأمجاد العثمانية الدامية، وبغطرستها مع أقليات الداخل والمحيط تبيّن تركيا يوماً بعد يوم أنّها لا تنتمي إلى ثقافة الانفتاح بل إلى العصور “الظلامية” التي تحاول إعادة احيائها بحدّ السيف. يبتهج أردوغان لإخضاع “آيا صوفيا” لسيف المُسلمين المتشدّدين. يغتبط لزيادة تعداد المساجد ناسياً أنّ الله لا يسكن في المباني وأروقة المعابد بل في القلوب والأفعال الخيّرة وهنا الفرق كلّ الفرق.