يطرح قرار الحكومة التركية برئاسة الرئيس رجب طيب أردوغان إعادة تحويل آيا صوفيا من متحف الى مسجد مرة ثانية ردود فعل متباينة. فقبل ان تكون الكنيسة متحفاً، كانت مسجداً. وكانت قبل المتحف والمسجد، مجمعاً دينياً للارثوذكسية البيزنطية.
وفي الأدبيات العامة انه عندما تمكّن محمد الفاتح من اجتياز أسوار اسطنبول بعد حصار طويل، وبعد أن تمكن من دخول المدينة، احتما كثير من أبنائها في الكنيسة الكبرى – الكاتدرائية. وان محمد الفاتح احتراما لها تمنّع يومئذ عن اقتحامها الى ان تم التوافق مع رئيس كهنتها على تسليمها له. ويقال ان محمد الفاتح اشترى الموقع من أصحابه1(؟). منذ ذلك الوقت ترددت مقولة ان كهنة المدينة كانوا يتناقشون في جنس الملائكة في الوقت الذي كان محمد الفاتح يحاصرها. والواقع ان أهل المدينة لجأوا الى الكنيسة للاحتماء بها، وان كهنتها كانوا يؤدون طقوس الصلاة داعين الله أن ينجيهم من أهوال سقوط المدينة.. وسقوط الامبراطورية البيزنطية.
تذكّر واقعة عدم اقتحام محمد الفاتح لكنيسة آيا صوفيا في اسطنبول زيارة الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب الى مدينة القدس حيث امتنع عن الصلاة في حرم كنيسة القيامة احتراماً لها من أن يأتي مسلمون فيما بعد ويقرروا إقامة مسجد على قاعدة «هنا صلّى عمر».
لم يكن احترام كنيسة آيا صوفيا قراراً سياسياً ولا مبادرة شخصية. كان قراراً دينياً أسوة بسابقة نبوية تشكل اساساً لعلاقات المسلمين مع المسيحيين خاصة، ومع أهل الكتاب بصورة عامة. فوثيقة العهد الذي عقده رسول الله محمد عليه السلام مع وفد مسيحيي نجران (الذين زاروه في المدينة المنورة وأقاموا في ضيافته يوماً كاملاً ودعاهم الى اداء صلاتهم في حرم مسجده النبوي مما يعني انه لم يدعهم الى اعتناق الاسلام)، نصّت على: «..وإن احتمى راهب أو سائح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو على أدرنة أو بيعة، فأنا أكون من ورائهم ذاباً عنهم من كل عدة، لهم بنفسي وأعواني وأهل ملتي وأتباعي كأنهم رعيتي وأهل ذمتي، وأنا أعزل عنهم الأذى..»، الى ان يقول: «ولا يغير أسقف من أسقفيته ولا يدخل شيء من مال كنائسهم في بناء مسجد ولا منازل المسلمين.. وإن فعل شيئاً من ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله. ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبّد جزية ولا غرامة. وانا أحفظ ذمتهم أينما كانوا من برّ أو بحرّ في المشرق والمغرب والشمال الجنوب..»2.
وعملاً بهذه السابقة التأسيسية لعلاقات المسلمين مع المسيحيين عامة، ومع رجال الدين منهم خاصة، كانت تعليمات الخلفاء للجيوش الاسلامية بعدم التعرض بسوء لرجال الدين وللرهبان الذين يعبدون الله، بل كانت التوصيات توجب مساعدتهم – حتى في الحرب – في المأكل والمشرب إذا ما احتاجوا الى شيء من ذلك.
وفي العهد الأموي عندما تقرر توسعة المسجد الرئيس في دمشق – الجامع العمري اليوم – تبين ان التوسعة لا يمكن أن تتم إلا على حساب كنيسة مجاورة للمسجد، وفيها ضريح يوحنا المعمدان. لم تصادر السلطة الاسلامية الكنيسة الى مسجد ولم تنتهك حرمة الضريح. ولكنها اتفقت مع المسؤولين عن الكنيسة على ان تعوّض لهم الدولة بثلاث قطع أرض لبناء ثلاث كنائس بدلاً من واحدة، على أن يبقى الضريح داخل المسجد الجامع بعد التوسعة. وعندما زار البابا القديس يوحنا بولس الثاني دمشق، قام بزيارة المسجد الأموي، وصلى أمام ضريح يوحنا المعمدان. ولا تزال الكنائس الثلاث قائمة في المدينة حتى اليوم.
يقع احترام المقدسات الدينية المسيحية في صميم السلوك التعبدي في الاسلام. وذلك انطلاقاً من الأسس التي حددها القرآن الكريم حول العلاقات مع المسيحية والمسيحيين، ومنها على سبيل الاشارة وليس الحصر:
1- تقول الآية 69 من سورة الحج: « لتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وانهم لا يستكبرون». إن تخصيص القساوسة والرهبان بالتقدير والثناء في القرآن الكريم يقتضي التعامل مع كنائسهم ورهبانياتهم بالتقدير والثناء أيضاً. لا يتناقض ذلك مع تحول الكنيسة الى مسجد فقط، ولكنه يتناقض مع أي شكل من أشكال التجريح أو الإساءة.
2-وتقول الآية 36 من سورة النور: «في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدوّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله..»، الى آخر الآية الكريمة. وبيوت الله هذه ليست المساجد حصراً. بل كل البيوت المخصصة لعبادة الله. والاسلام الذي يؤمن باليهودية والمسيحية رسالتين من عند الله، والذي يؤمن ايضاً بأن الانجيل والتوراة وحي من الله، من الطبيعي أن يؤمن بأن البيوت التي تُتلى فيها آيات الله من الانجيل والتوراة ويُذكر فيها اسم الله، هي كالمساجد، بيوت لله تتمتع بقدر متساوٍ من الحرمة والاحترام.
وفي ذلك تذكر الآية 121 من سورة البقرة: «الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به». ويذهب النص القرآني الى دعوة أهل الكتاب للحكم بما أنزل الله في كتبهم (الانجيل والتوراة) كما نصت على ذلك الآية 47 من سورة المائدة التي تقول: «قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والانجيل». ولم يقل حتى تقيموا القرآن.
ذلك ان الصورة العامة كما رسمها القرآن الكريم في الآيتين 113 و 114 من سورة آل عمران هي «ان من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله اثناء الليل والنهار وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات، وأولئك من الصالحين».
من أجل ذلك حرم الاسلام الاعتداء على كنائسهم ودور عباداتهم واعتبرها كالمساجد بيوتاً لله.
ففي جنوب سوريا مثلاً تقوم كنيسة سابقة في وجودها للاسلام. وهي مستمرة حتى اليوم رغم كل ما عصف بالمنطقة من أحداث ومتغيرات وتحولات.
غير ان هذه الثوابت الإيمانية تعرضت للتجاوز وحتى للانتهاك. فخلال فترة التوسع العثماني، جرى تحويل كنائس الى مساجد في قبرص واليونان وبلغاريا. وقبل ذلك، وربما رداً على ما قبل ذلك، جرى في اسبانيا بعد سقوط الحكم الاسلامي، تحويل كل المساجد الى كنائس ومن بينها المسجد الجامع في مدينة قرطبة الذي تحول الى عدة كنائس (ولا يزال حتى اليوم).
ولكن شواذ القاعدة لا يشكل قاعدة. والخطأ لا يُصحّح بخطأ. بمعنى ان تحويل مسجد قرطبة الكبير الى كنائس كان خطأ، لا يصحح بتحويل آيا صوفيا الى مسجد. فالتحويل هنا وفي العقيدة الاسلامية ليس خطأ فقط، ولكنه محرم بوصية رسول الله لما يشكله من انتهاك لحرمة موقع مخصص لعبادة الله.
عندما اجتاح الصليبيون اسطنبول وهم في طريقهم الى القدس، انتهكوا حرمة كل كنائسها، سلباً ونهباً وحرقاً. واعتدوا ليس فقط على أهل المدينة بل على قساوستها ورهبانها وراهباتها وارتكبوا من الفواحش ما لا يخطر على قلب بشر. لم يسجل التاريخ ان محمد الفاتح فعل شيئاً من ذلك. فهو لم يحوّل آيا صوفيا بعد سقوط المدينة الى مسجد. جرى التحويل لاحقاً. وكان خطأ، ولو انه لم يستمر طويلاً. وكما ان العودة عن الخطأ كانت فضيلة، فان العودة الى الخطأ، خطأ. وفي أيامنا هذه يصل الخطأ الى حد الخطيئة.
عندما توسع المسلمون شرقاً في آسيا، لم يحولوا معبداً هندوسياً أو بوذياً الى مسجد. ولم يعتدوا على التماثيل المرفوعة في المدن والجبال. بل تركوها لأهلها على قاعدة (لكم دينكم ولي ديني) التي ينص عليها القرآن الكريم. وعندما دمر المتشددون الأفغان من حركة طالبان تمثال بوذا، كان الصوت الاسلامي المستنكر أعلى من كل الأصوات الأخرى. فالتمثال الذي احترمه المسلمون على مدى أجيال عديدة كرمز تعبدي لفئة من الناس، الله أعلم ما في قلوبهم. وهو وحده الذي يحاسبهم يوم القيامة.
وفي العقيدة الاسلامية فان أهل الكتاب (المسيحيين واليهود) هم اقرب مودة للذين آمنوا. والمودة التي تجمع بين المحبة والاحترام نصّ عليها القرآن الكريم لتكون قاعدة أصيلة تقوم عليها علاقات أهل الإيمان بالله الواحد بطرق مختلفة.. وفي بيوت مختلفة تطلعاً وتعبّداً لإله واحد رحمان رحيم.
هذا في الأساس، أما في الشكل فان اسطنبول مدينة السبعة آلاف مسجد، ليست بحاجة الى مسجد إضافي. وهي حتى لو كانت في حاجة، فان الدولة قادرة، والمجتمع التركي مجتمع مؤمن وغني وكريم.
استمرت آيا صوفيا مسجداً طوال خمسة قرون ولكن في عام 1934 قررت حكومة الرئيس كمال أتاتورك تحويلها الى متحف، ومنذ ذلك الوقت توالى على الحكم في تركيا 64 حكومة مختلفة، لم تحاول أي منها تحويل المتحف الى جامع مرة ثانية، رغم انه كان بين تلك الحكومات حكومة اسلامية متشددة.
من هنا السؤال: لماذا الآن ؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من تسجيل الملاحظات التالية:
أولاً: لقد أدارت أوروبا ظهرها الى طلب الانضمام التركي الى الاتحاد الأوروبي على خلفية ان تركيا دولة اسلامية، وان أوروبا القلقة من تضخم إعداد المسلمين في دولها لا تريد أن تضيف نحو 75 مليون مسلم (تركي) جديد.
انعكس ذلك على دور تركيا في حلف شمال الأطلسي حيث تتناقض المواقف الأوروبية مع المواقف التركية من قضايا سوريا وليبيا ومن التنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط. كما تتناقض مع القضية القبرصية بحيث ان الجزء اليوناني (المسيحي) من الجزيرة أصبح عضواً في الاتحاد الذي يقفل أبوابه في وجه الجزء التركي من الجزيرة، وفي وجه تركيا أولاً وفي الدرجة الأولى.
وهكذا كلما شعر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بابتعاد بروكسل عنه، تقرّب أكثر من الأناضول حيث المعقل الاسلامي المتشدّد لحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه.
زاد الطين بلة، اعتراف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالمجزرة الأرمنية التي تنكرها الحكومة التركية. من هنا الشعور التركي بأنه إذا كانت العلمنة التي اعتمدتها الدولة التركية نظاماً لها لا يشفع لها بأن تكون عضواً في الأسرة الأوروبية، فلماذا استمرار التمسك بها؟ لقد كان من أهم رموز العولمة التركية تحويل آيا صوفيا من مسجد الى متحف. والتخلي عن العلمنة يعني إعادة المتحف مسجداً. انها لعبة المتغيرات في السياسة التركية الداخلية. ولكن يبقى دون ذلك الموقف المبدأ الذي يقول به الاسلام.
1- كيف يمكن ان تعقد صفقة بيع وشراء بين قائد جيش منتصر ورئيس كهنة يترأس الصلاة في الكنيسة؟!.
2- مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة – جمعها محمّد حميد الله – دار النقاش – بيروت – الطبعة السادسة 1987 – ص 501.