وقتُ معلّم هاغوب مأخوذٌ على الآخر. السيارات مصطفة على الميلين في انتظار فحص ميزان الديركسيون. سيارات تمثل طبقات المجتمع اللبناني وتعدديته حيث تقف تويوتا مشرئبة خلف مرسيدس عجوز يكاد قفاها يلامس الإسفلت وبي أم إلى جوار بيجو. قطعت الطريق على معلّم هاغوب وهو يهمّ بركوب سيارة رباعية الدفع يستعد لفحصها. معلّم هاغوب معلّم هاغوب… سؤال. سؤال بالنظام.
حدجني بنظرة غضب: اليوم كترانين الأسئلة.
• هل من الضروري فحص الميزان بعد تغيير البيضة؟
o نعم. قالها بكل نشافة.البيضة معك؟
• نعم قلتها برخامة.
دلّني إلى قسم البيضات في الكاراج لإجراء المقتضى وتابع طريقه مقطّب الجبين.
بمطرقة ومفكّات تم تغيير بيضة الديركسيون اليمنى. اليسرى سليمة.
بعد الخطوة الجراحية الأولى، أخذت دوري في انتظار فحص الميزان. بعد أقل من ساعة أشار إلي عامل في معسكر هاغوب بالتقدم إلى ما فوق الحفرة. بعد دقائق شعرت وكأننا في استوديو تحميض أفلام. يغلق معلم هاغوب الستارة. يسلّط الضؤ على مقدم السيارة. صوت قوي يصدر من حفرة تحت مكان ركن السيارة مصدراً أوامر عسكرية بتحريك المقود شمالاً ويميناً. إنتهى الميزان. ركب معلم هاغوب بالسيارة وغادر المكان من دون سؤال وجواب في مشوار تجريبي.
غاب لدقائق. عاد عابساً كما غادر. ترجل من السيارة، شد عزقات خلف الدولاب. وأنا على مقربة منه. لا أجرؤ على سؤاله عما فعل. فجأة تطلع إليّ والعرق يتصبب منه وقال: لبنان أربعة فصول. شتاء. ربيع. صيف وخريف. لبنان ساحل جبل. لبنان أجمل بلد. بدنا بس ساعة كهربا. ( شتيمة). بدنا تغيير سياسيين. تغيير شعب. 25 سنة حكم بالكرباج. معاهدة سلام. إنتهى.
لم ينتظر معلّم هاغوب مني أي تعليق. لا يهمه تعليقي. وقته لا يسمح بالإصغاء إلى التعليقات السخيفة. أمامه رتل من السيارات المنتظرة دورها. نقدته ما طلبه شاكراً خدمة الديركسيون متوجهاً إلى خدمة اللحّام.
على مدخل الملحمة، صادفت ثلاثة رجال صغيرهم في سن هنري كيسنجر، متحلّقين حول ركوة قهوة تتوسط “سكملا” مخلّعة ويدخّنون بشراهة. سمعت أحدهم، وقد وضع نظارتين سميكتين، يعرّ كذكر النعام. قال لجليسيه وهو ينفث دخان سيكارته من منخاريه بكثافة توازي دخان عمودي الذوق في مرحلة الإقلاع. “أفيش إتفاق نووي بين أميركا وإيران أفيش إنتخابات رئاسية بلبنان”. وكرر الجملة مرتين لترسيخها في الرأسين اليابسين المحيطين بسعة اطّلاعه.
تُرى ما رأي معلم هاغوب؟ سأعود إليه لاحقاً لفحص بيضة الشمال على صحة السلامة. بيضة الديركسيون مستطلعاً ما توافر لديه من معطيات.