Site icon IMLebanon

هل سيعود زمن “الخنافس” بعد نصف قرن؟

 

 

يا حلوة شعرك (ما) تداريه ويرضى عليك ما تقصيه…

غالباً ما كنت أتساءل أي نكبة تحل بالنساء لو انقطعت الصبغة لسبب ما؟ لكن لم يخطر في بالي يوماً أن أسأل ماذا يحل بهن لو صارت كلفة الصبغة توازي ربع راتب أو أكثر أحياناً؟ هل يتخلّين عنها طوعاً أو يناورن ويتحايلن لإيجاد حلول مرضية تبعد عنهن كأس «الشيبة» المرة؟ وماذا عن الرجال هل يرجعون الى زمن « الخنفسة» في زمن الإنهيار المالي وارتفاع تسعيرة قص الشعر أم يقنعون أنفسهم أن اللحية وقار والشيبة هيبة؟

وقفت على شرفة المنزل صباحاً أتأمل الشارع أمامنا ومن يمر فيه من نساء الحي، من فوق لم أر سوى بقع بيضاء تحتل أعلى رؤوس السيدات وتسير معهن في الشارع. لم تشذ واحدة من أهل حيّنا عن هذا المنظر وكأن بقعة الشيب في أعلى الرأس قدر لا مفر منه بعد الأربعين يتكشف للعيان في نظرة من فوق. وجهاً لوجه أعرفهن جيداً كلهن يخفين شيبهن خلف الغرة او القصة الديغراديه أو بضع ضربات من قلم تلوين أو ماسكارا سوداء لكن نظرة من فوق تفضح المستور وتكشف معه الى أي حد بلغت معاناة النساء مع كلفة الصبغة…

 

بين الصبغة والخبز

 

« كنت اصبغ شعري مرة كل ثلاثة أسابيع حتى لا أدع أياً كان يلاحظ الجذور البيضاء. لم اتأخر مرة، كنت معلمة «قد الدني» وراتبي يكفيني وزيادة!!! اليوم صرت أترك الشعر الشائب ينمو سنتيمترات قبل أن أصبغه. ما عدت أبالي فالصبغة صارت استثماراً مكلفاً وراتبي بالكاد يكفيني للوصول الى المدرسة». قد تبدو هذه الجمل كليشيه بالنسبة للبعض ووصفاً بعيداً عن الواقع لأن قلة من النساء يرضين بالخروج بشعر أبيض مهما كانت أوضاعهن المالية. لكن حين يصل الأمر الى المفاضلة بين الصبغة والخبز فلا شك أن لقمة العيش أولى. في لبنان ربات بيوت ونساء عاملات مستورات ما عاد بإمكانهن تحمل كلفة الذهاب الى المزين حتى للأمور الضرورية كالقصة والصبغة وما عادت الحلوة تداري شعرها…

 

«من 30 الى 35% تراجعت نسبة زبائننا يقول جو جبور وهو مزين نسائي معروف، وثمة سيدات لم نعد نراهن بالمرة. ومن كانت تأتي أسبوعياً للبراشينغ لم نعد نراها إلا مرة كل شهرين بعد أن تكون الصبغة قد تخطت موعدها بأسابيع. هنالك سيدات يأتين لقص شعرهن فقط ويطلبن الخروج بلا براشينغ ليوفرن الكلفة على أنفسهن. ومن كنّ يكرهن شعرهن المجعد بتن يتركنه على طبيعته ويدّعين بأنهن يفضلنه هكذا أو تعودن عليه بشكله الطبيعي، فأفهم أنهن يبحثن عن حل «وفّير» لا يثقل عليهن».

 

لكن هذا الواقع المحزن الذي يطاول، وفق المزين، جزءاً من الزبائن لا يمكن تعميمه على الجميع، فثمة الكثيرات من النساء اللواتي لم يغيّرن شيئاً من عاداتهن، ربما خففن قليلاً وتيرة زياراتهن الى المزين لكنهن لم يلغينها خاصة أن صالونات التزيين تقدم لهن خيارات عدة تناسب ميزانياتهن. صحيح أن ثمة صالونات فخمة تصل كلفة خدماتها الى أرقام لا تخطر في البال لكن الصالونات المتوسطة والشعبية تبقى في متناول معظم الفئات.

 

أحد الصالونات الراقية يصل سعر صبغ الشعر فيه الى مئة دولار وقد يرتفع المبلغ الى 150 إذا رافقه قص للشعر. أما في الصالونات الشعبية في الأحياء والمناطق المكتظة فيمكن ألا يتعدى المبلغ عتبة 500000 ليرة.

 

« أسعاري أدرسها جيداً» يقول جو «حتى أحافظ على زبائني، ويساعدني في ذلك كوني أملك محلي وليس علي دفع إيجار بالدولار. و إذا ما قارنا اليوم بالأمس نجد أن الأسعار اليوم أقل بكثير مما كانت عليه سابقاً نسبة الى الدولار. ولكن حتى نتمكن من الاستمرار علينا كمزينين أن نعمد الى التسعير بالدولار حتى نستطيع أقله تسديد أسعار المستحضرات المستوردة التي ارتفعت بشكل جنوني ودفع رواتب موظفينا وتسديد كلفة المولد، لكن حتى اليوم أسعارنا باللبناني وتراعي وضع زبائننا لكننا نشكر الله أننا ما زلنا قادرين على الاستمرار».

 

شابات في مقتبل العمر ينفقن رواتبهن بلا حساب عند المزين وسيدات يحسبن حساب كل قرش ينفقنه وأقساط البيت والمدرسة ولكن كل واحدة منهن بإمكانها إيجاد المزين الذي يمكنها تحمل تكلفته. براشينغ بخمسين الف ومثله بـ20 دولاراً، قصّة بـ 200000 وأخرى بـ 40 دولاراً وفق الإسم والمنطقة وحتى الزبونة.

 

وحين نسأل كيف يمكن للصالونات الشعبية تحمل كلفة تشغيل المحل يأتي الجواب صادماً: يستعملون أدنى نوعيات المستحضرات تلك التي تعبأ في لبنان من مصادر مجهولة أو تلك المهربة الى لبنان من سوريا كما يخبرنا أحد المزينين. كلامه تؤكده سعاد التي تقول «ما عادت الصبغة «تضاين» كما قبل، بعد اسبوع يعود الشعر الأبيض الى الظهور وكأن الكوافور يخدعني ويكذب علي».

 

حال صالونات التزيين مثل حال لبنان غريبة وغير مفهومة: انهيار وسياحة، فقر وسهر، نق وتبذير، ضائقة مالية وتشبث بالمظاهر…

 

بين زبائن الـ «فريش» والمعتّرين

 

الرجال من جهتهم غاضبون ما كانوا يوماً يحسبون حساباً لشعرهم اليوم صار عبئاً زائداً يُضاف الى سلسلة أعبائهم. بعضهم يودون مقاضاة الدولة التركية والمطالبة بعطل وضرر وتعويض عما يتكبدونه من كلفة أسبوعية لقص أو تشذيب الشعر المزروع. يلعنون تلك الساعة التي لعب فيها الشيطان برأسهم ودفعهم لإنفاق ما لا يقل عن ألفي دولار لزرع شعيرات تموه الصلع وتعبئ فراغات الرأس ( الخارجية)…هم يتمنون لو بإمكانهم الخروج براس أصلع جذاب لا يكلفهم إلا بضع دقائق من وقتهم يومياً. الصلعة اليوم باتت رائجة بحكم الموضة والأسعار. وقد بينت بعض استطلاعات الرأي في أوروبا وأميركا أن الرجل الأصلع من بين أكثر الرجال جاذبية وإثارة، وبناء عليه اعتمد شبان كثر صرعة الصلعة، من دون أن يدروا أنهم واصلون يوماً ألى وقت يُفرض عليهم فيه وهم على أبواب جهنم أن يعتمدوا الرأس الأصلع إجبارياً لا اختيارياً.

 

«كيف لا أحلق ما تبقى من شعر في رأسي بعد أن صارت كلفة القصة 300000 ليرة وبعض أصحاب الصالونات الفخمة يطلب ما بين 30 و 50 دولاراً لقصة شعر وحلاقة؟ بين الموتور والكوافورلا يبقى فرنك في جيوبنا» يقول احدهم.

 

قد تكون هذه حال كل أصحاب الدخل المحدود وهو ما يؤكد عليه اندريه الحلاق الرجالي في منطقة الحازمية قائلاً: «الموظفون، المدرّسون وعناصر الجيش لم نعد نراهم إلا نادراً، يأتون حين تصبح الحاجة ملحّة لقصة شعر. بعضهم يطلب تشذيب السالفين والرقبة فأدرك فوراً انه يريد قصة لكنه غير قادر على دفع كلفتها وأنه سيخفف بالماكنة في البيت الشعر المتبقي ويحصل بذلك على قصة بأقل كلفة ممكنة».

 

هل يعني هذا العودة الى زمن « الخنافس» والشعر المنسدل على العنق عند الرجال؟ «ليس الى هذا الحد يقول أندريه، من يختار إطالة شعره يقوم بذلك تماشياً مع «الترند» يود أن يكون على الموضة وليس بسبب الضائقة المالية. وفي الحقيقة زبائننا ما زالوا يقصدوننا كما اعتادوا ولا سيما هؤلاء الذين يقبضون راتبهم بالفريش الدولار أو يتلقون مساعدات من أهل لهم في الخارج ولكن بدأنا نرى ظواهر جديدة لم تكن موجودة سابقاً. صرنا نرى بعض هؤلاء الميسورين يدفعون عن غيرهم لا سيما عن كبار السن و»المعترين» الذين يدخلون المحل، ويعطون الموظفين في المحل إكرامية حرزانة باللبناني. فما يدفعه هؤلاء بالدولار لقصة الشعر والحلاقة لا يزال أدنى بكثير مما اعتادوا دفعه سابقاً. فمن كان يدفع 25 دولاراً سابقاً صار اليوم يدفع 10 او 15 دولاراً. بالنسبة لي التسعيرة حسب الزبون: القادر يدفع والمتعثر أسايره بالسعر».

 

تفاوت طبقي

الأمر ذاته يؤكد عليه المزين بوب شلوف في منطقة كفرحزير الكورانية ويقول «الزبائن لم يتغيروا ومعظم الناس قد تأقلموا مع الأسعار الجديدة وباتوا يجدونها عادلة لا بل أرخص من السابق. ربما بعض الصالونات في المناطق الشعبية تعاني وتضطر لإبقاء اسعارها في متناول الفئات الشعبية لكنها في المقابل لا تدفع إيجارات خيالية بالدولار ولا تستخدم المواد الرفيعة المصنعة في الخارج والتي ينبغي تسديد ثمنها بالدولار. أما اصحاب الصالونات الفخمة فيتكبدون كلفة عالية جداً لتشغيل صالوناتهم بدءاً من رواتب الموظفين التي تضاعفت عدة مرات وصولاً ألى كلفة المولدات التي تعمل دون انقطاع على مدى ساعات النهار مروراً بكل مصاريف المحل التي تدفع بالدولار».

 

التفاوت الطبقي الحاد في لبنان وصل الى الذقون. ففي حين قد يدفع البعض فوق المليون ليرة قص وحلاقة وصولاً الى 50 دولاراً مع «مسّاج ونتواياج»، يجد آخرون صعوبة في دفع 140000 للقصة ويؤجلونها قدرالإمكان ويشذبون اللحى في البيوت بما تيسر من خبرة وأدوات. ومن كان يشتري الجل لتصفيف شعره والزيت للعناية بلحيته صار اليوم يقلب المستحضر عدة مرات ويتأمله طويلاً قبل أن يرده الى مكانه على الرف وينصرف مسرعاً خارج المحل قبل أن تغلبه التجربة. حتى الشيبة عادت هيبة كما كانت في الماضي وما عاد كثر يصبغون شعرهم هرباً من كلفتها لا حبا بهيبتها.

 

رغم كل هذا لا يزال اللبناني «العيوق» يحرص على الخروج بأجمل طلة وإذا ما احتسبنا النواب والوزراء الحاليين والسابقين والزلم والمرافقين والسماسرة والمتعهدين مع المغتربين العائدين أمكننا أن نقدر عدد الزبائن الذين ما زالوا قادرين على تحمل كلفة «رستقة شبابهم» وما يرافقها من بخشيش. وهذا ما يفسر فورة الصالونات الرجالية التي تنمو في بيروت بشكل خاص كما في بعض المناطق بشكل لافت لا يمكن إيجاد تبرير منطقي له. فقد بات عددها يوازي عدد الصالونات النسائية، كثيرها فخم جداً فيه أقسام خاصة للعناية ببشرة الرجال وجمالهم وغرف مقفلة مخصصة للشخصيات. ويروي أحد أصحاب الصالونات أن نائباً واحداً فقط من بين من يقصدونه وهو نائب شمالي يسأل عن الأسعار وكلفة تشغيل المحل وعن أحوال الزبائن وأحوال صاحب المحل وموظفيه فيما كل الباقين يتصرفون وكأنهم سياح يزورون المكان للرفاهية من دون أن يعنيهم ما نمر به من صعوبات مالية.