يبدو مصير الحكومة معلّقاً على حبل اللقاء المنتظر بين جبران باسيل وسمير جعجع. طوال سنوات «النيّات الحسنة» المعلَنة و«التفاهم» السياسي بين الطرفين لم يلتقِ الرَجلان وجهاً لوجه إلّا نادراً. ما يُسرَّب من الغرف المغلقة لـ «الحكيم» و»المهندس» يعكس بأمانة رأيَهما ببعض. شخصيتان تتناقضان حتى العظم، لكن ما جَمعهما تلاقي مصالح يضحك فيه من يضحك في الآخر!
بدأ جعجع باستفزاز باسيل، ومِن خلفه الرئيس ميشال عون، باكراً جداً. حصل ذلك يوم «طَبش» رئيس حزب «القوات اللبنانية» يده على الطاولة مطالباً بأن يكون شريك النصف في اختيار قائد الجيش الجديد. يقترح رئيس الجمهورية أسماء ويختار جعجع واحداً منها. يومها زار رئيس «القوات» بعبدا عارضاً «المشكلة» على «فخامته» فردّ باقتضاب «نسّق مع جبران»… و«هيّي كانت».
ساهمت الاجتماعات واللقاءات الماراتونية بين عرّابَي «المصالحة» الوزير ملحم الرياشي والنائب ابراهيم كنعان في التقليل من فرص التصادم بين أبرز المرشحين لرئاسة الجمهورية. كلٌّ من موقعِه لم يكن يتحرّك أو يبادر إلّا من منطلق الأمتار الفاصلة بينه وبين القصر الجمهوري. بالتأكيد نجح الرياشي وكنعان في إعادة «نحت» بروفيل جعجع لدى الرأي العام وتقديمه في إطار مغاير تماماً لمرحلة الحرب، لكن ليس لدى باسيل. أحد أبرز المستفيدين من «ورقة التفاهم» كان أكثر من احتاج وقتاً ليقتنع بصوابية وضعِ اليد بيدِ جعجع ولاحقاً لتقبّلِ جلوسه على الطاولة مشاركاً في «طبخ» مشروع التمدّد المسيحي في الإدارات والمؤسسات والحكومات…
عبَّر رئيس حزب «القوات» مراراً عن وجود خلل في «مفهوم الشراكة عند الوزير باسيل»، لكنّه لعب دوماً على وتر «إختلاف المناخ بين «فوق وتحت»، على حدّ تعبيره. تُقطع الطريق أمام بعض مشاريع القوانين لطرحها على مجلس الوزراء، كمشروع الصرف الصحّي لمنطقة بشرّي المموّل بواسطة «وكالة التنمية الفرنسيّة»، يتصل جعجع بالقصر فيتبيّن له أنّ المرسوم ينقصه توقيع وزير الطاقة بغية إدراجِه من خارج جدول الأعمال، يطلب مراجعة «الرئيس» بالموضوع فيحصل التوقيع في اليوم التالي. هي ثغرة بالنسبة اليه تسمح بالقول «الرئيس لا يزال على الموجة معنا».
لكن «ليس في كلّ مرّة تسلم الجرّة». في الممارسة اقتنع جعجع بأنه يواجه رئيس… و»رئيس ظلّ» رفض ولا يزال «أن يضع نفسَه في تصرّفه»، كما أعلنَ في إحدى إطلالاته الإعلامية.
مشكلة جعجع الأساسية مع باسيل تمنُّع الأخير عن تنفيذ أحد أهمّ «شروط» تفاهمِ معراب التي قضَت بتشكيل فريق عمل من وزراء «القوات» و»التيار» في أولى حكومات عون يَرسم سياسات العهد العامة. في التنفيذ، «رَسمَ» جبران السياسات وانتظر من جعجع التصفيقَ له!
عدم إسناد الخارجية في الحكومة المقبلة لـ»السوبر وزير» شَغَل بالَ معراب. آخِر الأخبار تفيد أنّه قد يعيّن وزير دولة لشؤون رئاسة الجمهورية مكان الوزير الحالي بيار رفول. الموقع الجديد يَرفع منسوب الحساسية مع الشريك المسيحي الذي يَرصد الخطوات العلنية لباسيل لتكريسِ نفسِه «الآمر الناهي» ضِمن منظومة القرار «الرئاسية» تمهيداً لفرضِ نفسِه مرشّحاً أوّل لرئاسة الجمهورية يعكس النزاع على الحصص في حكومة ما بعد الانتخابات أحد أوجهه.
مشكلة باسيل مع جعجع ليس لأنه قاصِر في «العدّ»، وليس لأنه لا يؤتمَن على وزارات كالطاقة والنازحين والدفاع «السيادية» أو الصحة الخدماتية، أو لأنه «يكبّر حجمَه على حسابنا»… هي مشكلة اعتراف بالوجود أصلاً.
حتى اللحظة لم يجلس باسيل وفريق عمله اللصيق لدرس نتائج الأرقام التي أفرزَتها إنتخابات جرت للمرّة الأولى في تاريخ لبنان على أساس القانون النسبي وأظهرت بوضوح دخول «القوات» بقوّة كشريك مضارب مع «التيار» في الشارع المسيحي. أدار ظهرَه تماماً كما فعَل في معارك الجامعات والنقابات. والنتيجة أنّ «الغول» كبِر… و»التطنيش» عنه كذلك.
إعترَف الجميع ، بما في ذلك قوى 8 آذار، بقدرة جعجع على فرض نفسِه رقماً مسيحياً يَصعب تجاوزه. فيردّ باسيل من مكان آخر «ونحن كنّا 21 نائباً وصِرنا 29. وكنّا 10 نواب حزبيّين وصرنا 18. كنّا بخمسة أقضية وصرنا بـ 15»!.
أعلى سقف بلغَه باسيل في التهجّم على «حليفه» المفترَض حصَل خلال مهرجان إعلان «لائحة الشمال القوي» حيث خاطب جعجع قائلاً: «أوقِف رميَ رصاص الاغتيال السياسي علينا. هذا شكل من أشكال الجريمة، ونحن اتّفقنا على أن لا يكون هناك جريمة في مجتمعنا». ثمّة إصرار باسيلي على التذكير دوماً بارتباط جعجع بمرحلة الحرب وجرائمها.
وهوَّن رئيس حزب «القوات» الأمرَ عليه أكثر حين بدا متناغماً ومؤيّداً ومهلّلاً لاستقالة الرئيس سعد الحريري فاتّهَمه باسيل بدمٍ بارد «بالغدر برئيس الحكومة». جريمة أخرى موصوفة، في رأيه، يُحسِن باسيل الاستثمارَ فيها حين تدعو الحاجة.
«اللقاء الثلاثي» في سنّ الفيل أمس بين باسيل والرياشي وكنعان لم يعنِ سوى أنّ موانع عدة لا تزال تؤخّر لقاءَ «الحكيم» ورئيس «التيار» وجهاً لوجه. هو لقاء يتعارض أصلاً مع الإعلان «القوّاتي» قبل أيام بحصر التواصل مع عون «من الآن وصاعداً»، ليعود جعجع ويبشّر باستئناف التواصل مع وزير الخارجية. آخر الكلام الباسيلي لجعجع مفادُه «إذا كنتُ الفاسد والمرتشي وسارق المال العام كما تتّهمونني فلمَ الشراكة معي؟ حدِّد موقفَك إمّا تفاهم سياسي معي على أساس مساري «النظيف» الحزبي وفي الشأن العام، وإمّا «كلّ واحد بطريقه» ودبّروا رأسكم…»