Site icon IMLebanon

نصف قرن على «الهزيمة» المستمرّة

 

معظم ما تعانيه المنطقة العربية حالياً، خصوصاً منطقة المشرق العربي، هو من ذيول هزيمة 1967 التي غيرت الخريطة التي ارتسمت في ضوء قيام دولة إسرائيل في العام 1948. كانت الحاجة الى مرور نصف قرن على «الهزيمة» كي تبدأ نتائجها في الظهور على الأرض. ما كان يُفترض أن يحصل بعد «الهزيمة» تأخّر نصف قرن. لم تكن هزيمة حرب الأيام الستة هزيمة عسكرية فحسب، بل كانت هزيمة للعقل العربي أيضاً الذي لم يستطع تعلّم شيء يُذكر من الذي حصل وقتذاك بعد تمكن إسرائيل، بين ليلة وضحاها، من احتلال سيناء وقطاع غزّة والضفة الغربية والقدس الشرقية وهضبة الجولان.

ما نشهده اليوم من تفتيت للكيان السوري وضمّ للجولان واستمرار لعملية وضع اليد الإسرائيلية على الضفّة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، يعطي فكرة عن العجز العربي عن مواجهة الواقع كما هو. بكلام أوضح، هناك عجز، لا يزال قائماً، عن التعاطي مع موازين القوى والاستعاضة عن ذلك بتصوّر للموازين هذه أقرب الى الوهم من أيّ شيء آخر. لذلك، دمّرت إسرائيل جزءاً من البنية التحتية للبنان صيف العام 2006 وبقي هناك من يتحدّث عن «انتصار»!

كان الاعتقاد السائد لدى العرب، عشية حرب الأيّام الستة أن الجيوش العربية ستهزم إسرائيل بمجرّد أن جمال عبد الناصر أعطى أوامره بإغلاق مضائق تيران وسحب القوات الدولية من سيناء. لم يحصل شيء من ذلك. حصل العكس تماماً وذلك لسبب في غاية البساطة يتمثّل في رفض الجانب العربي الاعتراف بالموازين العسكرية القائمة وبالنتائج المترتبة على الهزيمة.

في الحروب أو في السياسة، أن يعرف زعماء الدول والسياسيون كيف التعاطي مع الخسارة، أهمّ بكثير من كيفية التعاطي مع الانتصار. لم يكن هناك سوى الملك حسين الذي عرف كيف يتعاطى مع الخسارة وعمل على الفور من أجل لملمة الأوضاع في الأردن، والمحافظة على ما بقي منه بعدما أصبحت المملكة عرضة لهجمات من جهات مختلفة على رأسها المنظمات المسلّحة الفلسطينية، التي كانت تسعى الى قيام وطن بديل في الأردن تحت شعارات من نوع «كل السلطة للشعب» أو «طريق القدس يمرّ في عمان»!

إذا كانت مصر استطاعت في مرحلة لاحقة التصالح مع الواقع، يعدما قام أنور السادات بزيارته للقدس في تشرين الثاني 1977، محطماً كل التابوهات التي سادت في المنطقة منذ ما قبل قيام دولة إسرائيل، فإن معظم العرب الآخرين فضلوا السير في ركاب الوهم. لم يستطع العرب مجاراة مصر بعد التهديدات التي وجّهت لهم من النظامين البعثيين في سوريا والعراق. تصالح النظامان فجأة من أجل الوقوف في وجه مصر ونقل جامعة الدول العربية من القاهرة وفرض إملاءات على العرب الآخرين.

استعادت مصر أراضيها وفضّل الأردن من أجل المحافظة على سلامته، وقبل الخطوة التي أقدم عليها أنور السادات، التخلي عن الضفّة الغربية. اعترف بقرار قمّة الرباط للعام 1974 الذي يكرّس منظمة التحرير الفلسطينية «الممثّل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني». أقدم في صيف العام 1988 على خطوة فكّ الارتباط مع الضفّة الغربية لتأكيد انّه لم يعد معنياً مباشرة بالمفاوضات من أجل استعادة تلك الأرض التي سعت منظمة التحرير الى وضعها تحت سيادتها.

بعد قرار قمّة الرباط الذي اتخذ بضغط من قوى عدّة، على رأسها الجزائر في عهد هواري بومدين، فقد الجانب العربي حجة قانونية أساسية استغلتها إسرائيل لتجعل من الضفّة الغربية «أرضاً متنازعاً عليها».

امّا النظام السوري الذي خسر الجولان، فوجد في ذلك أفضل حجة لممارسة سياسته المفضلة القائمة على اللاحرب واللاسلام، وهي أيضاً السياسة المفضلة لدى إسرائيل. الصدفة خير من ميعاد أحياناً. سمحت تلك الصدفة بقيام حلف غير معلن بين النظام السوري وإسرائيل ذهب ضحيته لبنان الذي لا يزال يعاني، الى اليوم، من النتائج المترتبة على «الهزيمة»، علماً أنّه امتلك ما يكفي من الحكمة والتعقّل للبقاء خارج حرب 1967. عانى لبنان من الاحتلال السوري ومن الاحتلال الإسرائيلي لجزء من أرضه في مرحلة معيّنة، وهو يعاني الآن من الاحتلال الإيراني.

بعد نصف قرن على «الهزيمة»، هناك دولتان عربيتان وقعتا معاهدتي سلام مع إسرائيل، هما مصر والأردن وهناك دولة عربية أرادت الهرب من الواقع ومن المعنى الحقيقي للهزيمة. تدفع سوريا غالياً ثمن ممارسات لنظام اعتبر الجولان ورقة تصلح لابتزاز العرب الآخرين بالتفاهم مع إسرائيل. كان هناك دائما اتفاق سوري ـ إسرائيلي، ما لبث أن تحول الى اتفاق سوري ـ إسرائيلي ـ إيراني، كي يبقى جنوب لبنان جرحاً نازفاً.

فوّت النظام السوري كلّ الفرص من أجل استعادة الجولان، وفوّت على الفلسطينيين كل المناسبات التي كان يمكن أن يحققوا فيها حلم التوصل الى تسوية معقولة الى حدّ ما وذلك قبل توقيع اتفاق أوسلو وبعده.

الواقع الذي لا مفرّ من الاعتراف به مؤلم، خصوصاً في ظلّ تداعيات الزلزال العراقي الذي حصل في العام 2003، حين سقط العراق في يد إيران كنتيجة مباشرة للحرب الأميركية على البلد. كان سقوط العراق كارثة في حجم «النكبة» و«الهزيمة»، بل أكبر منهما. هذا عائد الى أن دائرة الخلل في التوازن الإقليمي زادت الى حد كبير على كلّ صعيد وكرّست إيران لاعباً في المشرق العربي وفي العراق وسوريا ولبنان تحديداً.

في الخامس من حزيران 2017، هناك مشرق عربي جديد ولد من رحم «الهزيمة». هناك احتلال إسرائيلي دائم للجولان ولقسم من الضفة الغربية، بما في ذلك القدس، وذلك بفعل المستوطنات. هناك دويلة لإيران في لبنان، وهناك كيان سوري يتفكّك، وهناك قضية فلسطينية في مهبّ الريح. لم يعمل الوقت لمصلحة العرب. جعل الوقت أولئك الذين راهنوا عليه يقيمون خارج التاريخ وخارج الجغرافيا، كما حال النظام السوري حالياً.