جمهورية تطفو على اديم التغيير والتكبير والتصغير
والانجال يستعدون لملء فراغ انحسار الاباء والأجداد
روى، كما يقال، الرئيس الدكتور سليم الحص، قصة التغيير، في لبنان، بأنه قدر آت لا محالة. سيحل في الوقت المناسب وفي الزمان المناسب، والمكان الملائم، عاصفة التغيير تزمجر في الأجواء، وتتحرك في الآفاق.
كان الرئيس الدكتور سليم الحص يستعد لمغادرة المستشفى، بعدما قام مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني بالإطمئنان عليه، لكنه بادر مستدركاً الى القول بان التغيير الأساسي، بدأ في لبنان عندما اختار الرئيس فؤاد شهاب الرئيس الياس سركيس، اقرب مساعديه ومرافقيه اليه، واحبهم، واكثرهم صفاء الى ذهنه ليكون خليفته. يومئذ، فاجأ قراره الجريء أكبر اصدقائه الرئيس الشهيد رشيد كرامي، لكنه، عاد وبتناه سياسياً، وتبناه بعد ذلك رابطة نواب النهج الشهابي.
واردف: عندما اختارني لاكون شريكه في السلطة، بادرته بأنني مستعد لهذه المهمة، لكنني لن اكون رفيقاً لكم، بل شريكاً في القرار والحكم. بعد ذلك حاول اصدقاء الرئيس سركيس أن يزعموا انني اناور في السلطة ولست شريكاً في الحكم.
حاولوا ان يزرعوا بين قائد الجمهورية ورئيس الوزراء في الجمهورية شكوكا وارتيابا. لا فخامته انطلت عليه نيات مساعديه، ولا انا تسربت اليّ الشكوك. واذكر انه في احدى القمم العربية زعم بعضهم ان رئيس الوزراء قدم الى المؤتمر ورقة سياسية من اعداد سلطة غير سياسية الا انني انتفضت، وقلت انها ورقة سليم الحص، وقد اعددتها بالتشاور مع فخامة رئيس الدولة الاستاذ الياس سركيس.
استعاد سياسي عريق هذه الافكار، بعد الاعلان، عن ان الرئيس سليم الحص تخلى عن الامانة العامة لمنبر الوحدة الوطنية، واعلان نخبة من رفاق دربه، حمل المسؤولية التي تخلى عنها الرجل الكبير طوعا، وابرزهم الوزير السابق عصام نعمان.
وتشاء الصدف ان الرئىس الحص كان يوم ١٤ شباط ٢٠٠٥، في مستشفى الجامعة الاميركية، وكان عصام نعمان يعوده، لدى تلقفهما خبر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
طبعا، كان الخبر صعبا بادئ الامر خيمت سحابة سوداء بدت من الطبقة العاشرة من المستشفى، من دون ان يعرف احد، سر الانفجار المروع الذي دوى في ارجاء العاصمة، لكنه، عندما عرف قرابة الساعة الثانية بعد الظهر، ان جريمة نكراء اودت بحياة صديقه حينا، وخصمه احيانا كفكف دمعة ولاذ في صمت طويل.
عندما شاعت اخبار، تشكيل مجموعة من السياسيين لجنة تضم عصام نعمان لمحاولة ملء ثغرة سياسية فرغت باعتزال الرئيس سليم الحص الامانة العامة لمنبر الوحدة الوطنية، ادرك السياسيون ان الجمهورية في محنة، وان غياب الرجال عن مواقع للرجال، كارثة على الوطن وعلى الجمهورية في آن.
كان الرئيس سعد الحريري في واشنطن، وكان الرئيس امين الجميل يدعو الاصدقاء والكبار في لبنان ممن عرفوه رئيسا للجمهورية، وعاصروه رئيسا لحزب الكتائب اللبنانية احتفاء بتدشين المقر الجديد لمؤسسة بيت المستقبل تحت شعار عنوانه: اربعون عاما في خدمة الفكر ١٩٧٥ – ٢٠١٥ في سراي بكفيا.
والدعوة تزامنت مع اخبار راجت في البلاد، عن وجود توجه نحو انتخاب النائب سامي الجميل رئيسا لحزب الكتائب خلفا لوالده ولجده الرئيس الراحل الشيخ بيار الجميل.
ثمة في الاجواء افكار تحوم، وتوحي بتخلي الاباء عن مناصبهم الاساسية للأنجال، من ضمن ضخ الأفكار الشابة في الاجواء، اسوة بما يجري في المناخات السائدة، ولا سيما في المملكة العربية السعودية وسواها، لأن هناك نيّات لتسليم زمام القيادة في الوقت اللاحق للشباب من الأنجال، وفي مقدمتهم الوزير السابق النائب وليد جنبلاط الذي حل مكان والده كمال جنبلاط، لان تيمور جنبلاط بدأ يستعد لخلافة والده.
هل هذا نوع من النزوع الى التوريث العائلي، ام نوع من الجنوح الى تسليم الدور القيادي الى الأنجال بعد الآباء!
ربما، يقول كثيرون ان التغيير مستحب، ومقبول، لكن هناك تبايناً حول منحى التغيير، لشعور عند الناس بان التغيير لا يتوافق مع التوريث.
الا انه اذا صودف، وحدث تغيير جذري، من خلال الأنجال والأحفاد، فإن قدر الشعوب ان تستسلم لما هو حاصل، ليس منافياً للتغيير، وان اتسم احياناً بتفاصيل دقيقة وبافكار لا تتلاءم مع نزعة جارفة هذه الايام الى التصويب.
وهذا ما هو سائد الآن، في زغرتا، حيث يتأهب الوزير السابق والنائب سليمان فرنجيه لاخلاء الساحة، لنجله طوني، ليختاره الشعب مكانه، في تمثيل المواطنين لاحقاً في الندوة النيابية.
والذين يعرفون البيت الزغرتاوي العريق يعرفون ان النائب سليمان فرنجيه آلت اليه الزعامة باكراً بعد استشهاد والده طوني فرنجيه وزوجته فيرا وكريمته جيهان في ابشع مجزرة عرفها لبنان.
كان الرئيس الياس سركيس في القصر الجمهوري في بعبدا، عندما بلغه ان جريمة حصلت في اهدن ذهب ضحيتها ثلاثة وثلاثون شابة وشابا ابرزهم الوزير الراحل وزوجته وكريمته. عندئذ، قال الرئيس سركيس، وقد اعتصره الالم والخوف: إنها حرب المائة سنة بين الموارنة.
الا ان الرئيس سليمان فرنجيه، كان كبيراً في تلقفه المصيبة، وكبيراً في معالجة ذيولها، عندما طلب ممن يريدون الاحتفاظ ببطاقاتهم الكتائبية ان يغادروا المنطقة، ثم رفع شعاره الشهير عفا الله عما مضى، وبعد سليمان الرئيس ذهب سليمان فرنجيه الحفيد، الى سلعاتا مهبط رأس الشاب المتهم باطلاق النار على والده وزوجته وكريمته، وقال للعائلة الخائفة: عفا الله عما مضى قالها جَدّي سليمان وانا اتبناها ايضاً.
وهكذا نشأ سليمان طوني فرنجيه، في رحاب الصفح والمسامحة، وراحت المناصب الوزارية تنهال عليه، وتسلم تباعاً حقائب الصحة العامة والتعاونيات، الى ان كان قدره ان يتسلم وزارة الداخلية في حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي، وفي اثناء المؤامرة الكبرى التي ذهب ضحيتها الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
ويبرز الان الشاب طوني فرنجيه تحوطه المعية سياسية، وروح قيادية شابة تؤهله لزعامة تنتظره لاحقا، فيما تتسابق قيادات عديدة، في مختلف المناطق لتخطب وده وتحاكي طموحاته، فيما يقف والده الوزير والنائب سليمان فرنجيه في باحة الانتظار، للصعود الى القصر الجمهوري، اذا ما واكبته ظروف مؤاتية.
الا ان قرار الرئيس ميشال عون هو الذي سيحدد خياره، لان قوى ٨ آذار، ملتزمة جميعاً تأييده.
الا ان الحوار الدائر الآن، بين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية هو الذي سيحدد طريق المستقبل.
طبعاً، الرئيس أمين الجميل هو مرشح على خانة ١٤ آذار، وكذلك الوزير بطرس حرب، والدكتور جعجع هو مرشح دائم، الا ان ٢٢ جلسة نيابية مرت، وبقيت الجمهورية تبحث عن رئيس.
٨ آذار تريد قائداً للجمهورية، و١٤ آذار تريد رئيساً للجمهورية، والفرق كبير بين القائد والرئيس.
كان المسيحيون سابقاً ينقسمون بين الحلف، والنهج، لكنهم الآن، بين ٨ و١٤ آذار.
ولعل الأسوأ هو القول ان المسيحيين يحنون الى زمن مضى، الى زمن المارونية السياسية والحكم الماروني او الهيمنة المارونية، كما يقول الكاتب جوزف ابو خليل ولو صح ذلك، لكان المسيحيون والموارنة خصوصاً على اتم صراع غامض.
ويبقى السؤال: ماذا يريد الموارنة او ماذا تريد بكركي.
لقد طرّح الرئيس العماد ميشال عون الاسبوع الفائت اسئلة حول مصير لبنان، وحول مستقبل الجمهورية.
هل يريد العماد عون ان يعرف، ماذا يخبىء له الآخرون من نيات.
هل يريد ان يدفعوا لبنان الى ابواب الفيدراليات، ام يريدون معارضة وصوله الى الرئاسة.
ام ان الكونفيدرالية، هو اسم ملطّف لدفع لبنان نحو التقسيم، اذا ما ضاقت معظم السبل الى التوحيد.
وهذا ما جعل ابو خليل يطرح السؤال الى ما قبل اعلان دولة لبنان الكبير في العشرينات من القرن الماضي يوم كان المسيحيون مجبرين على الاختيار بين لبنان الصغير ولبنان الكبير.
ويقول جوزف ابو خليل، ان الدول العظمى، كانت تفضل هذا النوع من الاوطان لتبرر وجود الدولة اليهودية. وكان باستطاعة فرنسا الخارجة من الحرب الكونية الاولى بأعظم انتصار في كل حروبها ان تنشىء من الكيانات في منطقة نفوذها من الشرق قدر ما يحلو لها وتريد، او على الاقل ان تمنح المسيحيين ما منحته للعلويين في سوريا او للدروز او للمسلمين السنّة. لقد جعلت من سوريا الحالية اوطاناً عدّة، وكان في وسعها ان تفعل الشيء نفسه في لبنان لو طلب الموارنة منها، عهد ذاك، وطناً قومياً مسيحياً مكافأة لهم على محبتهم لها على مدى التاريخ!
ولو كانت المسألة مسألة سلطة وهيمنة واحتكار، لكان الموارنة قد اختاروا الوطن القومي المسيحي، لهم وحدهم، ومن دون اي شريك او مزاحم او منافس. أليس كذلك؟
انها الحرية التي أملت وجود لبنان دائما في كل عهوده، وبخاصة حرية المعتقد. فلا حرية من هذا الطراز في اي بلد من بلدان هذه المنطقة. وحده الدستور اللبناني من بين كل الدساتير العربية ينص على هذه الحرية التي تعني، في النهاية، ان يغيّر المرء معتقده متى يشاء وكيفما يشاء. وهي تعني ايضاً، بالضرورة، حرية التعبير التي من دونها لا يبقى من حرية المعتقد الا ما يُعرف بالباطنية او التقية او الذميّة. وهذا ما كان يحمل بيار الجميّل على القول دائماً لا نريد ان نعيش ذمّيين. وكان يقول دائماً وايضاً: سلوا المسيحيين في سوريا او في العراق او في اي بلد عربي اذا كانوا يشعرون، حقيقة، انهم في بيتهم او في وطنهم!!
وما الفائدة من القول بحرية المعتقد اذا كانت حرية التعبير مقيّدة او محظورة او ممنوعة… او دونها الترهيب الذي يمارَس على اللبنانيين، وعلى المسيحيين خصوصاً، حتى لو كان الحكم حكماً مسيحياً او مارونياً، او كان رئيس الجمهورية، الماروني، ملكاً او اشبه بملك؟!
وما الفائدة ايضاً من ان يكون الرئيس الماروني بكل هذه السلطات اذا كانت الحريات مقيّدة، وكان الاحرار في السجون او في المنافي والمعتقلات؟!
لقد اعطيت للمسيحيين في ميثاق ١٩٤٣، ضمانات للحريات في المقام الاول. بحيث يكون لبنان وطن حريات لا اي وطن.
وبهذا المعنى كانت الرئاسة للموارنة ومع كل الصلاحيات اللازمة لحماية السيادة الوطنية من كل اعتداء او طغيان، لحماية النظام الديمقراطي البرلماني، ويعتبر تمسك المسيحيين في الماضي، بصلاحيات رئيس الجمهورية كان يدافع عن هذا النظام.
ولم يسبق ان كان رئيس الجمهورية الماروني قابضاً على كل السلطات، لا، لان الدستور، او اتفاق الطائف او النظام يقول بذلك، بل لانه كان يتمتع بدعم سوري يجعل منه الحاكم بأمره، داخلياً. ويضيف جوزف ابو خليل انه لو أنصف اللبنانيون انفسهم لفعلوا اليوم، ما فعله الرئيس فؤاد شهاب، عندما قايض الزعيم المصري جمال عبد الناصر، وسار على خطاه في الشؤون الاقليمية، مقابل افساح المجال امام لبنان لان يكون دولة لا شبه دولة.
ولقد اسس فؤاد شهاب، فعلا، لدولة، ذات مؤسسات حقيقية لا صورية، سياسية وادارية وقضائية. واشرك كل الطوائف في الحكم والقرار. واذا صح ان المكتب الثاني في عهده قد تجاوز، احيانا، مهمته وتدخل في الانتخابات والصراع السياسي الداخلي، الا ان الحياة السياسية ظلت نشطة، وكذلك الحياة البرلمانية. وفوق هذا كله ظلت الكرامة الوطنية في عهده مصانة نسبيا.
الا ان ما حدث في العصر السوري هو التأسيس لدولة امنية لا دولة ديمقراطية، او لدولة قانون ومؤسسات. فالمعارضة مطاردة، والاعلام اللبناني اصبح مثل الاعلام العربي، والسوري خصوصا، لسانا خشبيا لا يحسن النطق الا ب الحقيقة التي تعلنها السلطة وتبشر بها. وليس للوجوه المخالفة ان تظهر على الشاشة الصغيرة، شاشة التلفزيون. والتظاهرات ممنوعة، وكذلك الاعتصامات وسائر وسائل الاعتراض على هذا الحكم الماروني الواسع السلطة والصلاحيات. هذا فيما المؤسسات الدستورية التي مهمتها الحد من هذه السلطة ومنع انفلاشها تتساقط الواحدة تلو الاخرى وتتداعى.
والانكى من هذا كله هو تحول القضاء كله الى هيئة اتهامية تكيل الاتهامات على انواعها للمعارضين ولا تسأل، لا عن حرمات ولا عن كرامات، من مثل ما يحدث مع الرئيس امين الجميّل على رغم بطلان ما يرسله هذا القضاء من وقت الى آخر من مزاعم وادعاءات. وتكاد الموس تصل الى ذقن البطريرك الماروني الكاردينال صفير!
لا، ليس صحيحا ان المعارضة المسيحية هي معارضة طائفية او مذهبية. ولعلها لا تلقي كل هذه المطاردة الا لانها معارضة وطنية بامتياز.
هل لبنان قبل الطائف، هو لبنان الذي يشهده اللبنانيون بعد مغادرة السوريين له.
والجواب: لا، ليس هذا هو لبنان الذي احتضن قبل نصف قرن ونيّف مؤتمر الاونيسكو، تلك القمة الدولية والعالمية في الثقافة والمعرفة، وهو لما يزل دولة ناشئة ومتواضعة.
ان لبنان في العام ١٩٤٨ هو من الدول التي اسست جامعة الدول العربية، واقرت ميثاقها وميثاق الامم المتحدة، وكان مشعلا وضاء لحقوق الانسان فمتى يستعيد هذا البلد مكانته التي استحقها وهو لم يزل دولة فتية؟
والخلاصة ان لبنان لم يكن نفسه في قمة بيروت بل كان بلدا آخر، او بالاصح لم يكن بلدا ابدا. كان فقط سلطة سياسية تتفانى في تقليد السلطة السورية، رؤية ونهجا واداء. فلم تضف شيئا الى ما تتصف به هذه الاخيرة بل على العكس من ذلك بدت متخلفة عنها: كان الرئيس السوري بشار الاسد بليغا في تبيان وجهة النظر السورية، سواء كان بالنسبة الى المبادرة السعودية او بالنسبة الى الصراع المرير الذي يخوضه الفلسطينيون ضد الآلة العسكرية الاسرائيلية. اما الرئيس اللبناني اميل لحود فقد كان اقرب الى شخص من شمع منه الى رئيس على لبنان وعلى القمة العربية.
لم يكن من الضروري ابدا، ولا كان لائقا ان يمنع نقل كلمة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. مباشرة وعلى الهواء الى المؤتمر. ولم يكن لهذا المنع سبب وجيه او مبرر. فقط حرمان ياسر عرفات الوهج الذي كان قد اكتسبه لو وصلت كلمته مباشرة الى القاعة، وعبر الاثير: من مقره المحاصر بالدبابات في رام الله، الى مقر القمة العربية في بيروت…
وقد بات واضحا ان وجود لبنان السياسي مسألة محسومة، اقليميا ودوليا، ولا ثمة مشاريع بالغائه على المستوى الاقليمي، بل هناك ما يشبه الاجماع على كونه البلد الذي لا غنى عنه في هذا المشرق، سياسيا واقتصاديا. انه بلد – ضرورة على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية.
والحقيقة ان ثمة ثقة في النفس افتقدها المسيحيون عموما نتيجة التسوية السياسية التي تمت على المستوى الوطني وهم في حال حرب اهلية في ما بينهم. ولا شيء يحول دون احياء هذه الثقة في النفس، كما جرى في عهود سابقة. انهم الجماعة الروحية المسؤولة عن وجود لبنان، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، لا اقلية مهضومة الحقوق تطالب بحقوقها ولا تستجاب!