Site icon IMLebanon

حمادة يردّ على أبو سليمان في مسألة العمال الفلسطينيين

 

تكشف مقالة وزير العمل اللبناني كميل أبو سليمان في جريدة «الأخبار» الغرّاء، أول من أمس، عن إمكانية الحوار؛ وكذلك إشغال العقل السياسي في البحث عن حلول للمشكلات التي تواجه تنظيم وزارة العمل، للعمالة الأجنبيّة في لبنان، لأن أصل طبيعة هذه المشكلة سياسي أكثر منه قانوني. إن تنظيم العمالة الأجنبيّة فعل سياسي متحرك وفق حاجات السوق المتغيرة وسياسات الحكومات المتعاقبة، وليس تطبيقاً حرفياً صارماً ومتشدداً لمواد قانونية متقادمة، تتناول في أغلبها الناحية الآلية، من نوع إصدار الإجازة لإعطاء إقامة العمل، ودفع الرسوم وسواها. فيما تتركز مسؤولية وزير العمل، باعتباره، رأس سلطة حاكمة، في إدارة سياسة استخدام اليد العاملة الأجنبية وفق حاجات السوق وسياسات الحكومة.

الوزارة موقع سياسي والوزير رجل دولة ورأس وزارته ومسؤول عن السياسات في جوهرها الأصيل وفي ظاهرها الشكلي، وليس مجرد منفذ للقانون، وإن كان يتقيد بأحكام القانون ومواده، آخذاً بعين الاعتبار أن السبت خلق للإنسان وليس الإنسان للسبت، وأن الحرف يميت أما الروح فتحيي (بولس) وأن القوانين، كل القوانين مهما بلغ شأنها، قابلة للتعديل وفق الحاجات والضرورات الواقعية والمصالح الوطنية العامة، وأن فقه القوانين مرتبط بالأخلاق والحق الإنساني، وقابل للاجتهاد والتفسير والشرح والتأويل، وأن الأمر في جوهره سياسة العباد وإدارة البلاد أكثر منه تطبيقاً حرفياً متشدداً، لقوانين وضعها الإنسان نفسه وترك الشارع منها محلاً لنقدها وتعديلها حتى القوانين الدينيّة، على كليتها وصلاحها الأبدي، قابلة للتأويل والاجتهاد وتدبّر النظر.

يطغى على مقالة الوزير أبو سليمان الجانب القانوني، سرد متواصل لمواد في قانون العمل ذات طابع إجرائي وتعديلاتها. ونستبين من ذلك أن طريقة إدارة الوزير لهذه المسألة، السياسية الاجتماعية الإنسانية بامتياز، تقوم على اعتماد التنفيذ الحرفي للقوانين المرعية وكأنه مدعٍّ عام أو قاضٍ، فيما وظيفة الوزير في إدارة وزارته تقوم على دراسة الواقع، وتعيين المشكلات ورسم السياسات وتحديد المصالح وتعديل القوانين إذا تعارضت مع الواقع والسياسات، والمصالح والمقاصد. حتى في الأحكام الشرعية، يذهب المجتهدون إلى دراسة ظروف الأحكام وتعيين مقاصد الشارع فيها. بمعنى أننا حين ننظر في قانون، يلزم أن نتنبه إلى الواقع الذي يعنيه وقصد الشارع منه وهو أمر متوفر حتماً في فلسفة القانون وفقه القانون.

لست باحثاً في القانون، بل مشتغل في الفلسفة. سبق لي أن كنت وزيراً للعمل، في حكومتين متعاقبتين، وواجهت مشكلة تنظيم اليد العاملة الأجنبية وأنجزت إنصاف العمال الفلسطينيين وتنظيم العمالة السورية، بإنشاء دائرة العمال السوريين في الوزارة، وكنت محترماً للقانون، وصانعاً للسياسات المرتكزة على دراسة الواقع وتحديد الأهداف والمصالح وتعيين المقاصد.

كل تنظيم لاستخدام اليد العاملة الأجنبية يبدأ من دراسة الواقع ورسم السياسات. معرفة حاجات سوق العمل وطبيعتها، ومن هي اليد العاملة المتوفرة فيها وخصائص قدراتها ومهاراتها وتبادل الخبرات وتبادل حركة اليد العاملة، وتأمين حقوق العمال، كل العمال اللبنانيين والعرب والأجانب، وحماية اليد العاملة اللبنانية، بما يتفق وسياسات الواقع، لأن اليد العاملة اللبنانية موزعة بين لبنان ودول العالم، كما يوجد في لبنان يد عاملة من دول العالم التي تبادلنا التعامل بالمثل، والتي تحتاج إلينا ونحتاج إليها.

وعليه، من هنا نبدأ، ومن الخطأ أن نبدأ كما يفعل معالي الوزير أبو سليمان تحت شعار تنفيذ القانون بإقامة حملات تشبه الحملات الأمنية، وذلك في مداهمة مراكز العمل، والبحث عن العمال المخالفين، ومطاردة العمال الأجانب في حملات لا تتفق وبداية اشتغال الوزارة على تنظيم هذه الوظيفة.

نعود إلى الموضوع الأساسي وهو العمل الفلسطيني في لبنان.

ما هي خصوصية العمالة الفلسطينيّة في لبنان والتي توجب استثناءهم؟ في دراسة واقع السوق اللبنانية، يتبين أن العمال الفلسطينيين يختلفون عن بقيّة العمال العرب والأجانب في النواحي الآتية:

1- العمال الفلسطينيون لاجئون طردوا من ديارهم 1948، ولبنان شاهد على هذا الأمر، ومسجلون في الدوائر الرسمية، ولديهم بطاقات تشهد على هذا اللجوء، وليس بطاقات إقامة كبقية العمال الآخرين. وهم موجودون في لبنان مع أسرهم، وعائلاتهم وقد ولد أغلبهم فيه، ومات من مات من أهلهم فيه. وهم في ما خص حركة السوق جزء أساسي من السوق اللبنانية.

2- العمال الفلسطينيون مقيمون وليسوا عمالاً وافدين حتى تنظّم لهم رخصة العمل حق الإقامة والعمل.

3- لا يمكن سلب إنسان في هذا الوضع، حق العمل، لأن حق العمل حق الحياة.

4- من خلال هذا الوضع، يدخل العامل الفلسطيني كعنصر داخلي له وضعية خاصة، يختلف فيها عن الآخرين.

إن عدم ملاحظة قانون العمل اللبناني المتقادم لهذه الخصوصية لا تعني أنها صورية وغير موجودة. وعليه لا يمكن تجاهل هذه الخصوصية في رسم سياسات العمل، ويكون المطلوب، تعديل القانون لا مجافاة الواقع. إن مجافاة الواقع تؤدي إلى رسم سياسات خاطئة وتثير مشكلات كبيرة.

أذهب إلى تفسير اعتمدته حين اتخذت قراري حول استثناء العمال الفلسطينيين والذي لاقى تأييداً وطنياً ودولياً ومن كل المؤسسات الدولية المعنية بشؤون العمال وحقوقهم والمعنية بقانون العمل أصلاً. وهذا التفسير يستند إلى اجتهاد في دراسة المرسوم الذي يجيز الاستثناء ويقوم على أن القانون اللبناني في بعض مواده يستحيل تطبيقه على العمال الفلسطينيين؛ لأنه لم يوضع في الأصل لهم. ما كان المشرع اللبناني يقصدهم، وإلا كان انتبه إلى استحالة تطبيق أحكام القانون عليهم. وأن هذه القوانين في موادها المعنية متقادمة وهي من النوع الذي يلزم تعديله على الدوام.

إنها لا تصلح لسياسة الواقع الراهن المتعلق بالعمال الفلسطينيين لأنها لم توضع من أجل ذلك، ولم تقصد أو تلحظ هذا الواقع المختلف.

وأيضاً، إن قانون العمل اللبناني يستحق أن يعدل، وأن يطوّر، في كثير من مواده، المتقادمة والمخالفة لقوانين العمل الدولية، الراجحة عليه ومخالفة لحقوق الإنسان، ومنحازة لأرباب العمل، وجائرة في موادّ عدة، وكانت محل اشتغال على تعديلها في مخططات وزارة العمل.

يرد سؤال من ناحية فقه القانون، لماذا نعفي العامل الفلسطيني من الرسوم ولا نذهب إلى إعفائه من الإجازة؟ طالما أن الإعفاء ممكن، ولا يؤذي قداسة القوانين، وهو إعفاء مالي وإعفاء من الضرائب، لأن المشرع لاحظ خصوصية العامل الفلسطيني. وعليه يلزم أن نكمل معالجة حقوق هذه الوضعية الخاصة كأن يكتفي العامل الفلسطيني المسجل في وزارة الداخلية بتسجيل مكان عمله في دوائر وزارة العمل (علم وخبر) يعفيه من الإجازة التي لم تسنّ من أجله ولوضع قانوني مثل وضعه وطالما أعفيناه واستثنيناه من دفع الرسوم.

ثم ماذا عن الاتفاقات الدولية وما حصل في توقيع معاهدة مع الدولة السورية، بشأن العمال السوريين والتي أنشأْتُ بموجبها دائرة العمال السوريين في وزارة العمل، وما مشروعية نظام الكفالة والوكالة الذي لا يليق بدولة تحترم حقوق الإنسان؟

ثم كيف يمكن حماية اليد العاملة اللبنانية، عن طريق تهجير اليد العاملة الأجنبية في لبنان، وهل ذلك ممكن، إذ إنها مشكلة كبرى في دول عالمية عدة، وإن خلق فرص العمل يكون بتنمية قطاعات الإنتاج ومعرفة حاجات السوق، وإقامة التعاون وتبادل المهارات والخبرات والعلوم مع العالم؟

المسألة واقعية سياسية عمالية بامتياز، ودور وزير العمل هنا حيث هي الوردة يكون الرقص كما يقول الفيلسوف الألماني هيغل، وليست في الانكباب على دراسة القوانين وتنظيم حملات مطاردة العمال. إن وزير العمل يجب أن ينتصر للعمال ولا ينتصر عليهم، الأحزاب السياسية يجب أن تضع السياسات الواقعية، المبنية على المصالح والمقاصد، والقيم وتبادلها ولا تكون رهينة مواقف مسبقة ومتسرعة وعشوائية لكسب سريع في شعبيّة لا تفيد ولا تدوم.

الحوار يفيد، إذاً تعالوا ندرس الواقع، ونرسم السياسات ونعدّل القوانين الصالحة لها، لأن الحياة قادرة دائماً على إقامة التوازن.

* وزير عمل سابق