يحق لحركة «حماس» أن تقرر مواقفها، وأن تختار تحالفاتها، في إطار ما ينسجم مع برنامجها السياسي، أو منهجها العقائدي، أو التوفيق بين كليهما. في المقابل يفترض المنطق الموضوعي أن عليها تقبّل مناقشتها، بصدر واسع، في مدى توافق اختياراتها تلك، وانسجام مواقفها، كتنظيم ذي دور أساسي على الساحة الفلسطينية، عموماً، ثم خصوصاً كسلطة حكم في قطاع غزة، مع الصالح الفلسطيني العام. ضمن هذا السياق، يمكن الافتراض أنه ليس من باب التجني أن يُنادى على حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، الأقرب للأولى بين التنظيمات الفلسطينية، أن مهلاً في شأن المضي قُدماً في الرهان على إيران.
الجدل الذي أعقب زيارة وفد «حماس» الأخيرة لطهران (الحادي والعشرين من الشهر الجاري) لم ينشأ بلا أسباب. كان ممكناً إتمام الزيارة بلا أي التزام من جانب الحركة يضعها، ويضع معها مصالح الفلسطينيين عموماً، في مهب رياح حروب التحالفات القائمة في منطقة تعصف بها أعاصير يُراد منها إعادة رسم خرائط إقليم الشرق الأوسط بأكمله، وفق رؤى مفروضة من قوى دولية تشكل اللاعب الأساسي، ثم إنها تتصارع فيما بينها على مناطق النفوذ. كلام صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، الذي أُخذ على محمل أنه جعل من «حماس» خط دفاع أول عن إيران، لم يكن ممكناً أن يمر بلا أثر، أو ألا يثير من الجدل ما هو مشروع بالفعل. صحيح أن السيد العاروري لم يخص إيران وحدها في كلامه ذاك، بل أتى الكلام ضمن سياق عام، مُعتبراً أن الحركة تمثل «خط الدفاع الأول عن كل مكونات الأمة العربية والإسلامية وشعوبها، بما فيهم جمهورية إيران». إنما يصح القول كذلك إن نص مثل هذا التصريح من جانب قيادي يتحمل مسؤوليات العاروري يُلزم، من جهة أولى، حركة «حماس» بما يفوق قدراتها على أرض الواقع، ثم، من جهة ثانية، يحمّل مصالح الشعب الفلسطيني، خصوصاً في قطاع غزة، فوق ما تحتمل، إذ قد يترتب على كلامه هذا المزيد من التشدد في إحكام الحصار الإسرائيلي على أهل القطاع.
لستُ أدري، والأرجح كثير غيري، لماذا تصر حركات وفصائل وتنظيمات فلسطينية على المضي قُدماً بعد قدم، ويوماً بعد آخر، في نهج الرهان على أي طرف غير فلسطيني عندما يتعلق الأمر باتخاذ المواقف والالتزام بالتحالفات. نعم، من حق «حماس» أن تسعى إلى فتح صفحة جديدة مع الحكم في دمشق عبر طهران، لكن أليس الأحق هو أن تفتح قيادات الحركة، بقلب مفتوح وبكل صدق نيّة، أبواب التصالح كافة مع حركة «فتح» بلا قيد مُسبق، أو شرط مُكبّل؟ ثم، متى سوف يتناهى إلى سمع متخذي القرارات في حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» صوت حقيقة بسيطة تقول إنه كما أن إيران الشاه لم تكن ضد إسرائيل، كذلك تفعل طهران العمائم، تبيع معسول الكلام بالزعيق المُقاوِم، لكنها لن تكون ضدها بالفعل، عندما يتعلق الأمر بمصالح الإيرانيين أنفسهم. الحال ذاته ينطبق على تركيا إردوغان، التي واضح لكل من يتابع عمق ترابط مصالحها مع حلف «الناتو»، من جهة، وزخم ميزان تبادلها التجاري مع تل أبيب، من جهة ثانية.
تأبى بعض صور الصِبا أن تنمحي، خصوصاً إذ تستحضرها وقائع حاضر مؤلم، فتراها تطل من بئر الذاكرة. كنا، أيام الصبا ومطالع الشباب في قطاع غزة، كثيراً ما يجرنا لهو الحديث، إلى مبالغة بعضنا في التحمّس لما يبدو له الرأي القاطع، أو الحكم الأصح، أو الموقف الحاسم، فيصيح أحدنا متحدياً الآخر: أراهنك أن هذا ما سيقع. مِن جانبه، يرد المُتَحدى قائلاً: أتراهني على الخطأ، سوف أربح وأنت تخسر. تلك كانت أنواع رهان يحق على أغلبها وصف توافه أشياء تشغل الشبان في مقتبل العمر، لكن بعضها كان يجرؤ على الاقتراب من مواضع ليست تخلو من خطر، مثل الاجتراء في الرهان على أن أسئلة امتحان نهاية العام سوف تشمل فقط كذا وكذا من المواضيع. الأخذ برهان كهذا كان يوصل البعض منا، بالضرورة، إلى ذريع الفشل، بعدما يهمل الشرط الأساسي في التحضير لأي اختبار، بالاستعداد لكل الاحتمالات، واستيعاب كل المواد، وعدم استبعاد أن يأتي سؤال بأي موضوع. الأرجح أن رهان «حماس» على إيران لم يأخذ بكل هذه الأسباب، وأن ينتهي إلى فشل في امتحان خطير تمر به المنطقة.