ليس في صدور وثيقة جديدة عن حركة «حماس» ما يُقدّم أو يؤخر لا فلسطينياً ولا عربياً. ليس فيها ما يغيّر شيئاً في أوضاع منطقة الشرق الأوسط ولعبة التوازنات فيها.
صدرت الوثيقة الجديدة مع اقتراب الذكرى الخمسين لهزيمة الخامس من حزيران (يونيو) التي كانت قبل أيّ شيء آخر هزيمة للعقل العربي، هزيمة يبدو أنّه لم يُشفَّ منها بعد. لو كان العقل العربي شُفي من هذه الهزيمة، لكانت «حماس» صارحت العرب عموماً والفلسطينيين على وجه التحديد بأنّها تريد وراثة السلطة الوطنية الفلسطينية والحلول مكانها في الضفّة الغربية. فالسلطة الوطنية الفلسطينية تعاني حالاً من الترهّل لأسباب داخلية أوّلاً ولانسداد آفاق التسوية السياسية ثانياً وأخيراً.
يحصل ذلك في وقت، تحوّلت حركة «فتح» الى موضوع هامشي، لا لشيء سوى لأن «فتح» بوضعها
الراهن لم تعد على علاقة بـ«فتح». وهذا ما تعيه «حماس» جيّداً مع اقتراب ذكرى مرور عشر سنوات على استيلائها على قطاع غزّة وإخراج السلطة الوطنية وأجهزتها منها وحرصها على المسّ بما يمثّل تاريخ «فتح»، بما في ذلك منزلا ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، وخليل الوزير (أبو جهاد) ومحتوياتهما.
باتت «حماس»، التي أقامت «إمارة إسلامية» في القطاع وخاضت حروباً مع إسرائيل، تمتلك ما يكفي من الخبرة في ممارسة السلطة في ظروف في غاية الصعوبة. لماذا لا تنقل تجربتها الى الضفّة الغربية مستخدمة هذه المرّة الوسائل المشروعة وبرنامجاً مقبولاً من المجتمع الدولي.
يقوم هذا البرنامج الجديد، الذي أعلنته «حماس»، على التخلي عن فكرة تدمير إسرائيل من جهة وقبول قيام دولة فلسطينية في حدود العام 1967 من جهة أخرى. إضافة الى ذلك، سعت «حماس» الى طمأنة مصر وذلك عن طريق إعلان فك الارتباط بحركة الإخوان المسلمين، علماً أن الطفل يُدرك أن هذا ليس ممكناً وليس صحيحاً، لأن في داخل كلّ حمساوي أخاً مسلماً صغيراً يعرف جيّداً متى يخبّئ ما يؤمن به حقيقة وراء بذلة غالية الثمن وربطة عنق شبه انيقة، بل مشكوك بإناقتها، متظاهراً بأنّه يريد دولة مدنية منفتحة. الواضح أنّ مصر تعرف ذلك جيّداً ولذلك وضعت العلاقة مع «حماس» في إطار محدّد بدقة. حصرت هذه العلاقة بجهاز الاستخبارات لديها، أي أنّ موضوع العلاقة مع «حماس» موضوع أمني بالدرجة الأولى.
لا يمكن الاستخفاف بالطريقة التي تُعدّ بها «حماس» نفسها لتولي أمور الضفّة الغربية. استعانت بشخصيات أوروبية نافذة تولت التوسط مع الإدارة الأميركية، التي يبدو أنّها اطلعت على النصّ الذي اعتمدته الحركة من أجل الإطلال على العالم بطريقة مختلفة عن تلك التي أطلّت بها عليه من غزّة.
من هذا المنطلق، لا بدّ من وضع الوثيقة الجديدة التي أعلنت عنها في إطارها الصحيح، أي السعي الى السلطة. هناك شبق للسلطة، ليس بعده شبق، لدى الإخوان المسلمين وكل التنظيمات التي خرجت من عباءتهم. المهمّ السلطة. هذا ما بدا واضحاً من خلال ممارسات «حماس» في غزة.
أمضت «حماس» عشر سنوات في حكم القطاع بعد الاستيلاء عليه بالقوّة في منتصف حزيران 2007 وبعدما أخلّت بكل الاتفاقات التي وقّعتها مع «فتح»، بما في ذلك اتفاق مكّة. نجحت في أمر واحد هو الاحتفاظ بالسلطة بعدما جعلت همّ كلّ فلسطيني مقيم في القطاع الهرب منه. أكثر من ذلك، استفادت الى أبعد حدود من الحصار الذي فرضته إسرائيل على أهل القطّاع. وفّرت إسرائيل لـ«حماس» كلّ ما تريده من أجل الاستمرار في التحكّم برقاب الغزّاويين. كان استمرار الحصار جزءاً من استراتيجية الحركة الإسلامية التي أرادت تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني وليس الانتهاء من الاحتلال الذي رحل بالفعل عن غزّة صيف العام 2005.
كانت الصواريخ المضحكة ـ المبكية التي تطلقها «حماس» بين وقت وآخر تجاه إسرائيل أكبر خدمة قدمّتها لها كي يقول ارييل شارون والذين خلفوه، على رأسهم بنيامين نتنياهو، إن لا شريك فلسطينياً يمكن التفاوض معه.
بعد عشر سنوات من الخدمات الجليلة لإسرائيل، آن الأوان لـ«حماس» كي تقدّم أوراق اعتمادها لنتنياهو في الضفّة الغربية. كيف لا ترحّب حكومة إسرائيل سرّاً بمثل هذا التطوّر، على الرغم من أن عليها مهاجمته علناً، ما دامت «حماس» ترفض الاعتراف بها. عدم الاعتراف يعفي من أيّ مفاوضات جدّية لإنهاء الاحتلال.
لا شيء يمنع «حماس» من القول صراحة إنّها تريد السلطة ووضع اليد على منظمة التحرير الفلسطينية وعلى الضفّة الغربية. أمّا القول إنّ الوثيقة الجديدة ستشكّل تطوّراً على الصعيدين الفلسطيني والإقليمي، فهذا كلام لا معنى له ولا يصدّقه إلا الساذجون الذين يجهلون أن ياسر عرفات ناضل طويلاً من أجل الوصول الى إقرار البرنامج الوطني الفلسطيني الذي مهّد، بعد توقيع اتفاق أوسلو، لدخوله البيت الأبيض.
بين اللقاء الأوّل بين «أبو عمّار» ووزير الخارجية الفرنسي جان سوفانيارغ وإقرار البرنامج الوطني الفلسطيني الذي يتضمّن اعترافاً بإسرائيل وبالقرار 242، انقضت أربع عشرة سنة. عقد اللقاء مع الوزير الفرنسي، وكان الأوّل من نوعه بين مسؤول أوروبي في هذا المستوى يمثّل دولة لديها عضوية دائمة في مجلس الأمن، في العام 1974 في مقر السفير الفرنسي في بيروت. في العام 1988، انطلقت رحلة التفاوض مع إسرائيل بعد بدء الحوار بين منظمة التحرير والولايات المتحدة، مروراً بنبذ «أبو عمّار» للإرهاب في مؤتمر صحافي عقده في جنيف.
كان الهدف الوصول الى الدولة الفلسطينية المستقلة وليس ممارسة السلطة في ظلّ الاحتلال أو الحصار كما هو حاصل حالياً في غزّة والضفّة الغربية. لتكن «حماس» صريحة ومباشرة مع الفلسطينيين وتعلن ما الذي تريده، أي حكم الضفّة الغربية. لن تجد عندئذٍ أي مشكلة مع إسرائيل، لا لشيء سوى لأنّ الأخيرة تفضل مئة مرّة أن تكون «حماس» واجهة الشعب الفلسطيني والمجتمع الذي تسعى الحركة الى إقامته كبديل من المجتمع الفلسطيني المنفتح على كلّ ما هو حضاري في العالم.