IMLebanon

حميميم مختبراً للجنرالات

 

اعترفت قيادة الأركان الروسية أخيراً بإحباطها هجوماً على قاعدتها العسكرية في حميميم السورية بواسطة طائرات درون من دون طيار، وكانت قبل أيام قد أعلنت مقتل اثنين من جنودها وقد قُتلا إثر هجوم بالقذائف شنّته المعارضة السورية المسلّحة على القاعدة نفسها في مدينة اللاذقية. وعلى رغم أن صحيفة «كومرسنت» الروسية تحدّثت عن سبع طائرات حربية روسية تحطّمت خلال هذا الهجوم الذي وقع في ليلة رأس السنة ومقتل عشرة جنود روس على الأقل، فالقيادة العسكرية الروسية نفت نبأ تحطّم طائراتها جملة وتفصيلاً.

روسيا التي لم ترسل جنودها خارج حدودها إلا عام 1962 إلى كوبا، اعترفت على لسان الجنرال فاليري غيراسيموف رئيس الأركان العامة أنها «أرسلت 48 ألفاً من الجنود والضباط إلى سورية، حيث شكّلت فترة خدمتهم هناك حلقة تدريبية مهمة انخرطت فيها هذه القوات في عمليات حربية كما في التدريب والمراقبة»، كما جاء على لسان الجنرال لصحيفة «البرافدا» الروسية.

ولا يُخفي القادة الروس أن الحرب على سورية كانت فرصة استثنائية لاختبار السلاح الروسي المطوَّر الذي انتشل جيــش بشار الأسد من هزيمة محققة بتدخــل عسكري مباشر من موسكو في 2015، حيث كان الأسد في حينها قد فقد السيطرة على 90 في المئة من الأراضي الســورية. أما اليوم، وبسبب الفاعلية التدمـــيرية للسلاح الروسي الذي لم يفرّق فــــي غاراته الوحشية بين مدني وعسكري، فاستعـــاد الأسد السيطرة على ما يزيد على نصـــف مساحة البلاد. وقد قامت موسكو باختبار 200 نوع من الأسلحة التي لم تعتمد بعضها إلا إثر ثبات فعّاليتها في المعـــارك الدائرة في سورية، هذا ناهيك عن الخبرات القتالية التي اكتسبها العسكريون الروس، ولا سيما الطيارين منهم، الذين وجدوا أنفسهم غير مرة في تماس مباشر مع الطيران الأميركي من دون الاشتباك معه. وقد قال أحد الطيارين الأميركييـــن أنه استطاع أن يضع عينه في عيــن طيار روسي عندما كانت المقاتلتان تحلقان جنباً إلى جنب فوق دير الزور من دون أن تشتبكا أو حتى تصطدما. وتكاد التمارين الحربية في مواجهة الآلة العسكرية الأميركية المتقدمة تكون من أهم مكتسبات الجيش الروسي في المختبر السوري، وهي فرصة نادرة الحدوث ستشكّل خبرة مضافة للروس ترفع من معنوياتهم وثقتهم بأهليتهم القتالية أمام «العدو» الأميركي المستتر الذي ما زال يتربّص للدب الروسي في أوكرانيا.

من نافلة القول إن عمليات روسيا العسكرية على الأراضي السورية، كما حال قواعدها في حميميم وطرطوس التي تمّ تمديد عمرها لنصف قرن قابلة للزيادة وصدر قرار حكومي روسي بتوسعتها وتأهيلها بأسلحة نووية، إنما ترمي أبعد بكثير مما يلوح خلال دخان المعارك والغارات المتواصلة التي يشنّها الطيران الروسي على المدن السورية. فقد غدا جلياً أن تلك العمليات إنما تخفي إشارات لحرب مستترة بين موسكو وواشنطن ما زال جمرها مغموراً تحت رماد الحروب الإقليمية التي يديرها بوتين بقسوة ومقدرة في آن. وليس ما يحدث في سورية ببعيد سياسياً عما حدث في أوكرانيا، ففي كلا الحالتين عزّزت موسكو عودتها إلى ميدان القوى الكبرى كندّ عتيد للولايات المتحدة الأميركية من باب مدّ بساط نفوذها السياسي وتوسيع رقعة احتلالاتها العسكرية المباشرة.

ويعتبـــر اتفاق الرئيسين ترامب وبوتيــن على خطة محددة لمستقبل سورية أمراً نادراً حكمته تقاطعات استراتيجية بيـــن مصالح واشنطن وموسكو، فكلاهما يرفض تواجد ميليشيات إيرانية أو قـــوات حكومية سوريّة إلى جانب الحدود الأردنية والإسرائيلية في الجنوب الغربي السوري، وأصبح هذا الأمر نافذاً اليوم بعد أشهر قليلة من اجتماعهما في فيتنام. أما تقاسم النفوذ والعلاقة مع الحلفاء شرق نهر الفرات وغربه فقد شكّلت العمود الفقري لتوافقات فيتنام، حيث حدّدت مذكرة التفاهم بين الرئيسين مستقبل القواعد العسكرية الأميركية على الأراضي السورية، وهي قواعد قابلة للتوسّع والتكاثر وتنويع المهمات. وليس إعـــلان وزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس أخيراً عـــن خطة إرسال ديبلوماسيين أميركيين إلى منطقة شرق الفرات الحيوية لها ولحلفائها من وحدات حماية الشعب الكردية إلا منعكساً لبنود مذكرة فيتنام، في حين تتابع روسيا نشر نفوذها إلى جانب دعمها غير المشروط لحليفها الأسد في مناطق غرب الفرات، وقد تم تحديد النهر كخط أحمر فاصل لا يمكن تجاوزه من أي من العملاقين المتناطحين.

وبينما اتفقت الولايات المتحدة وروسيا في حربهما على تصفية داعش، فإنهما افترقتا في مسعى آخر وهو إسقاط النظام السوري. فواشنطن التي ترغب بعملية سياسية انتقالية من دون الأسد بعد أن أعلنت قضاءها بمفردها على داعش، تقف في موقع النقيض من المنافس الروسي الذي أراد حماية حليفه الأسد حتى النهاية وزعم أن تصريحات واشنطن لا مكان لها من الصحة وأن موسكو وجيشها هما من هزم داعش في سورية. أما الهدف البعيد لموسكو ولزخمها العسكري فقد رسمه بدقة العدد الهائل من العسكريين والضباط والخبراء الذين شاركوا في هذه الحرب الكبرى بآلاف مؤلَفة ضمن خطة تناوب مدة كل واحدة منها ثلاثة أشهر بحيث يخضع أكبر عدد ممكن من جنودها وضباطها لظروف الحرب السورية. وإذا علمنا أن قيادة الأركان المركزية قد بدّلت قيادة العمليات في سورية بحيث تناوب خمسة جنرالات على رأس هرم القيادة في حميميم فسنعرف أن مخبر حرب العالم على أرض سورية قد أنتج جيلاً جديداً من السلاح ومن صنّاع الموت وهواة الإرهاب ما لم يُحسب له حساب، وسيبقى الجميع يحصد شوكه لعقود تأتي.