في كل مرة تمتد يد إيران الى دولة عربية، تقع تلك الدولة في الفوضى والحرب والتقاتل، ويتدهور اقتصادها، ويتهدّد التفتّت مكوناتها السياسية والاجتماعية، وتصاب مؤسساتها بالعجز، ونظامها بالشلل، ويهجّر سكانها ويجبرون على النزوح، كأنما اليد الإيرانية تجلب سوء الطالع وتُحِلّ «النحس» بكل ما تلمس أو تداني، أو كأنها «لعنة» سُلطت على كل من وما تقترب منه. وإذ نشاهد ما يحصل في العراق اليوم من تخبّط سياسي وأمني واجتماعي، ومن صراعات دينية وطائفية وعرقية، ومن حملات إقصاء وانتقام، واستشراء للفساد والمحسوبية، ونهب للمال العام، فضلاً عن التزلف للحامي الإيراني واستدرار تأييده لهذه الكتلة أو الوزير أو النائب أو حتى الموظف، ندرك الى أي مستوى انحدر وضع هذا البلد في ظل هيمنة إيران وتسلّطها على قراره. حتى صارت بلاد الرافدين الغنية بشعبها وحضارتها وثقافتها ونفطها، أقرب الى الدول الفاشلة، وسط انقسام حاد يعبّر عن نفسه بالإبعاد السياسي والطائفي، والتهجير وفقدان الأمن، وإذلال الأقليات، وتضييع الثروات، وحصار المدن وتجويعها، وتكاثر المرجعيات وتفريخها، والارتجال في القرارات.
كأن إيران تنتقم لتاريخها من العراق، فتختار الأسوأ لقيادته، وتدعم الأكثر فساداً وإفساداً، وتزرع الفتنة بين أبنائه، وتتفرج على اقتتالهم متلذِّذة بسقوط جدار طالما وقف في وجه أطماعها وتمدّدها.
والأمر نفسه ينطبق على سورية ولبنان منذ مدّت طهران جسور الإغراءات المادية والطائفية الى نظام حافظ الأسد، وابتكرت بمشاركته جهازاً عسكرياً – أمنياً في لبنان أسمته «حزب الله»، هدفه إيصال هذا البلد الى حال من التسيّب والانهيار يسهل معها ضمّه عملياً إذا تعذر ذلك قانونياً ودستورياً، وهي مهمة نجح فيها الحزب الذي يتفرغ الآن لرعاية «إنجازه» وتكريسه. وأدى تسليم الوريث بشار الأسد قراره بالكامل لطهران و «حرسها»، الى اندلاع ثورة تغيير سلمية لم يلبث أن قمعها بعنف شديد أدى الى عسكرتها دفاعاً عن النفس، ليباشر بعد ذلك بدعم من إيران وميليشياتها المتعددة أكبر سلسلة من الجرائم ضد الإنسانية في التاريخ، بحيث قارب عدد ضحاياه نصف مليون قتيل وأربعة ملايين جريح وعشرة ملايين نازح ومهجر، إضافة الى مئات آلاف المعتقلين.
وبالطبع، لم يعد في سورية اقتصاد ولا استقرار ولا أمل بسلام قريب أو استعادة لوحدة جغرافية، بل نهب وفساد وانهيار وحروب متعددة وتقسيم عملي، بعدما اشتغل النظام الطائفي على إيقاظ العداوات بين مكونات شعبها الى حدودها القصوى، وبات يعتمد على جيوش وميليشيات أجنبية، يدافعون عنه وفق شروطهم وارتباطاتهم الإقليمية والدولية.
وكان اليمن آخر ما طاولته اليد الإيرانية. فبعدما صرفت طهران سنوات في تسليح إحدى طوائفه وتمويلها وأدلجتها، ثم أقحمتها في سلسلة حروب على الدولة وباقي اليمنيين، عادت فحرّضتها على نقض اتفاق سلام أبرم بالإجماع، والانقضاض عليه، وحاولت إعادة رسم خريطة البلاد السياسية والاجتماعية، فأنتجت حرباً أهلية جديدة، وعمّمت الخراب في سائر أنحائه، وألحقت به أضراراً على كل صعيد لن يسهل تعويضها.
وعلى رغم أن إيران تفرّق تماماً بين السياسة المعتمدة للخارج الذي لا يهمها سوى إخضاعه كيفما كان، وتلك التي تمارسها في الداخل، إلا أنها ليست في منأى عما تحدثه في الجوار الإقليمي. فتقسيم الولاءات والإمعان في تفتيت مراكز القرار وقمع المعارضين، سجناً وإعدامات، واللعب على التناقضات بين «متطرف» و «معتدل»، جزء من الأيديولوجية العامة التي يطبقها المرشد في الداخل الإيراني لإبقاء الخيوط كلها في يده، حائلاً دون أي تغيير. وهو استقرار هشّ لن يدوم، فطابخ السم آكله.