Site icon IMLebanon

مصابا حرب تحدّيا الظروف وتزوّجا وأنجبا

 

 

حين همس الناس في الكنيسة: “بلا جازتن أفضل”

“هي عمري” يردد. تنظرُ إليه، تبتسم، وتقول: “إرادة الربّ أقوى من كلِّ شيء”. نعبر الى منزلهما في منطقة الحدث، المطلّة على مشاهد رائعة من لبنان، فيستقبلاننا بالترحيب. كلٌّ على كرسيه المتحرك. يجلسان جنباً الى جنب، دواليب أربعة وقلبان كسرتها الحياة، بدل المرّة مرات، لكنهما رفضا الإستسلام. صوَرُ طفل تتدرج لتُصبح صور شاب مثل القمر هو الياس، إبنهما، يشرحان تفاصيل، كل تفصيل بقلبين نكاد نسمع دقاتهما: هنا الياس بعمر أربعة أشهر. وهنا في شهادة البروفيه. وهنا في الجبل. وهنا في قربانته الأولى. وهنا في العمادة… الياس هو أعجوبة مارالياس في منزلهما. فما قصة لور ونقولا والياس؟ وكم كانت الدنيا قاسية معهما؟ كم هُمشوا وكيف جعلا من الضعف قوّة؟

حمل الشاب نقولا البندقية في صفوف المقاومة المسيحية، دفاعاً عن أرض وعرض، وتصدى لهجمات الفلسطينيين عند نقطة الحدث السان جورج. وعصر يوم 24 ايلول 1976، عند الساعة السادسة تحديداً، دخلت رصاصة جسده وأفقدته الوعي. وبعد خمسة أيام إستفاق في مستشفى أوتيل ديو. حاول الحراك عبثاً. وبعد يوم عاد وحاول ولم يستطع. سأل طبيبه وألحّ: أرجوك قلّ لي كلّ الحقيقة؟ فأجابه بصراحة: فقدت القدرة نهائياً على المشي وستُمضي العمر مقعداً. كنّ قوياً”. ويتذكر: “بكيتُ نحو عشر دقائق لا أكثر، ثم مسحتُ دموعي وسألت: ماذا عن الخطوة التالية؟ كيف أواجه تحديات الأيام الآتية؟

 

التحديات كانت كثيرة والناس لم يكونوا “عادلين” كثيراً وتهميش الإنسان المختلف بمثابة “عادة” في بلادنا. دخل نقولا المعهد اللبناني للمعوّقين في بيت شباب. تعلّم الرسم. تعلّم مواجهة الحياة. وتعلّم أن الليل لا بُدّ، مهما طال، أن ينجلي. وبدأ يجني المال. عمل في الرسم على الخشب والفخار 18 ساعة يومياً. وضع ثياباً في سيارته وباعها في القرى. أبى أن يهدأ ربما لينسى وربما ليؤسس العائلة التي طالما حلم بها.

 

كلام الناس…

 

ماذا عن الحبّ في حياته؟ يجيب “أحببتُ فتاة طوال 11 عاما وهي أحبتني كثيراً لكن كلما فاتحتها في موضوع الزواج كانت تتهرب. لم تقتنع بإمكانية الزواج من مقعد. وقالت أن أهلها “بيقتلوها” إذا عرفوا. فالمعوّق برأي كثيرين يفترض ألّا يتزوج وأن ينزوي وأن يموت قبل الموت. إنفصلنا. وبالصدفة أخبروني عن فتاة، وحيدة أهلها بين سبعة شباب أصيبت برصاصة أقعدتها وتنوي الإنتحار. كانت لور التي أصبحت زوجتي”.

 

ننظر الى لور فنكتشف لمعاناً شديداً في عينيها. شديدة الذكاء تبدو. هي أصيبت برصاصة دخلت الى منزلها في الطبقة السادسة، من مبنى في حيّ السريان في الأشرفية. كانت تعمل في شركة فتال وتحلم وتطمح، وفي لحظة، في اقل من لحظة، اسودّت الدنيا في عينيها. هو ظلامٌ شديد ظنّت ان الخروج منه محال. هي لور حبيب سعد، الفتاة الصغرى التي أتت بعد سبعة شباب وتقول: “أصبت في 14 شباط في العام 1989 واعتبرتُ ان الحياة قد انتهت. أخذوني الى بيت شباب وهناك تعرفتُ الى نقولا. كان قد مضى على وجوده هناك 16 عاماً فاستمديتُ قوتي من خبرته في الحياة الجديدة. تقرّب مني. أحبني. ويوم اعترف بحبّه قلتُ له: مجنونٌ أنت؟ بصراحة لم أحبّه في البداية. قلبي كان مقفلاً واعتبرتُ ان لا مكان للحبّ عند المختلفين.

 

فكرتُ في تلك اللحظات بالتحديات التي قد أعيشها. حاولت كنس البيت وعجزت. بكيتُ كثيرا لكني عدتُ وحاولت مجدداً. اردتُ الإعتماد على نفسي. واستمرّ نقولا يُقنعني بالزواج. اهلي، مثل اهله، قالوا لنا: فكروا أكثر فهذه مسؤولية كبيرة. المجتمع كان قاسياً ايضاً معنا وراحوا يسألوننا: وكيف ستفعلون هذا وكيف ستتخطون ذاك؟ أسئلة كثيرة تؤلم المصاب وتعزز فيه القهر من حالة لم يكن له يد فيها. وأكثر ما أشعرني بالحزن يوم وافقت على الزواج ودخلنا الى الكنيسة معا. سمعتُ من يقول، من وراء ظهورنا: “لشو جازتن؟(زواجهما) هول فيهن يجيبوا ولاد؟”.

 

الياس دنياهما

 

مرّ على زواجهما ثلاثين عاماً وما زال “كلام الناس” يُنغص قلب لور. هي حملت ثلاث مرات وأسقطت جنينها قبل أن تحلم بمارالياس. أضاءت له شمعة. وبعد ايام حملت من جديد وثبُت حملها وأنجبت صبياً، يشعّ نور الحياة الجديدة من وجهه، سمياه الياس. هو فرحٌ وتحدّ جديدان. هو وهي تساعدا في حمله وفي إطعامه وفي العناية بنظافته وصحته وكبُر “بالشبر والنذر”. وكانت يد الله معهما. ومارالياس حماه فلم يتأذى كسواه من الأطفال وهو صغير”. تنظر لور الى صور الياس الموزعة في كل أنحاء الغرفة وتقول: “إرادة ربنا أقوى من كل شيء”.

 

أصبح الياس اليوم شاباً. هو يعمل في ميكانيك السيارات نهاراً وفي العناية بقلبي نقولا ولور مساء. رؤيته عناية وزاد لشخصين أصيبا في الحرب اللبنانية ولم يجدا عناية من دولة لا تفقه من حقوق الإنسان شيئاً. واستمرّ كلام الناس يقهرهما من حين الى آخر. كانوا في كل مرة يرون التحديات التي يتجاوزها الزوجان المقعدين يستغربون. إحداهن قالت للور: غريب كيف يبقى بيتك نظيفاً طوال الوقت! أجابتها: وهل بيتك وسخ؟ قالت لها: أنا اركض ليل نهار. أجابتها وأنا اركض أيضا ليل نهار على دولابين ويدين.

 

لا سجاد في منزل لور ونقولا. السجاد يعيق حركتهما. اما كل شيء آخر فجُهّز، من قبلهما، لراحتهما. يُمسكان بيدي بعضهما البعض وينظران في عيني بعضهما البعض ثم في صور وحيدهما فيمتلكان الدنيا وما فيها. هي “دنيتهما” الخاصة التي استكثرها كثيرون عليهما.

 

ننظرُ إليهما. نسألهما عما إذا كانا سيُكرران القبول بكل التحديات التي مرا بها لو عادت عقارب الساعة الى الوراء أربعين عاماً وأكثر . يُسارع هو الى القول: “لو عاد الغريب ليخترق قرانا لأمسكتُ البندقية من جديد وواجهته”. أليس في كلامه كثير من المثالية؟ ينظرُ إلينا كمن يلومنا على سؤالنا، فالوطن بالنسبة إليه “شجرة طيبة لا تنمو إلا في تربة التضحيات وتُسقى بالعرق والدم”. يدور في أرجاء الغرفة الضيقة. يصطدم دولابا كرسيه المتحرك بدولابي كرسي زوجته المتحرك ويتابع كلامه “الحياة محلّلة لنا أيضاً. والحبّ من حقنا. ومن حقنا أن نحيا الحياة ولا ننزوي بعد إصابتنا. لور كانت هدية السماء لي. والياس هو هديتها إلينا معا”.

 

تتابع هي حيث توقف هو عن الكلام قائلة “طريق ربنا هي طريقنا”. يزيد هو عليها “لور بطلة”. تنظر إليه وتقول “الحج (نقولا) هو البطل”.

 

كلاهما بطلان والرب راعيهما. أما كلام الناس فيترك ندوباً لا تُمحى “فالناس لا ينصفون الحي بينهم، حتى إذا ما توارى عنهم ندموا”.

 

سمع لور ونقولا كثيراً عن قانون المعوقين لكنهما لم يريا شيئاً ولا يهمهما في الدنيا كل كنوز الدنيا. وحده الياس كل الحياة. هو الرئة والقلب والروح والكتف والأقدام والماضي والحاضر والمستقبل. وقلبا كلبهما على كل من أصيبوا في الحرب وفي التفجيرات ومن ولدوا بإعاقة “الله يعطيهم الصحة والقوة والقدرة على النضال والمواجهة وعدم الإستسلام لمشيئة من يحاولون، عن قصد او من دونه، تهميشهم في حياة ليسوا مسؤولين عنها”.

 

اليوم، يتابع الزوجان نضالهما في هذه الحياة “بفرحٍ عظيم” وهما موقنان أنهما كلما ابتعدا عن “الجهلة” تمكّنا من المثابرة قدماً أكثر. فكلاهما أعطيا الوطن دماً وعرقا لكن الوطن لم يعطهما إلا الوعود. لا يهم. لا يهم نقولا ولور أي شيء خارج البيت – الحصن. فمن لم يرِد يوم إصابتهما أن يموتا لن يتركهما في كل تفاصيل العمر الباقي.