يعتقد كثيرون أنّ التصاعد التدريجي لنفوذ إيران على التماس مع إسرائيل، وفي الشاطئ الشرقي للمتوسط، ليس فقط وليد القوة التي أظهرتها أجنحة إيران الإقليمية، ولاسيما «حزب الله»، إنما أيضاً نتيجة تحولات وتوافقات سياسية كبرى شهدها الشرق الأوسط والعالم العربي في السنوات الأخيرة.
ثمة أسئلة يطرحها البعض عن اللغز الذي سمح بنمو دور «حزب الله» وإيران في لبنان، تصاعدياً وبسهولة، إلى حدّ انهيار جبهة الخصوم الداخليين، عملياً. وتتركّز هذه الأسئلة خصوصاً على الأسباب التي أدّت إلى هذا الانهيار، بعدما كانت الساحة اللبنانية تحافظ على توازن دقيق بين القوى المحلية والإقليمية، طوال عشرات السنين.
كانت مظلة أي تسوية في لبنان هي الـ»س- س»، أي سوريا- السعودية. ومع خروج السوريين من لبنان، ثم اندلاع الحرب في سوريا، كان ممكناً أن يتمّ تبديل المعادلة لتصبح سعودية- إيرانية. إلّا أنّ عوامل أخرى دفعت نحو تفوُّق إيران، بحيث باتت تمسك وحدها بالقرار اللبناني تقريباً.
اليوم، إيران هي التي تفاوض الولايات المتحدة، وإسرائيل في شكل غير مباشر، ويقتصر دور لبنان الرسمي على نقل الرسائل في هذا المجال، من دون امتلاك أي هامش في الموافقة أو الرفض. وأساساً، ليس لأي فريق نفوذ عسكري في الجنوب أو نفوذ سياسي فعلي في داخل الدولة سوى «حزب الله»: من قرار الحرب والسلم مع إسرائيل، إلى ترسيم الحدود براً وبحراً، إلى تقاسم حقول النفط والغاز وضمان أمنها، وصولاً إلى كل شاردة وواردة في مؤسسات السلطة، وفي مقدمها اختيار رئيس جديد للجمهورية.
المطلعون يقولون إنّ إيران تمكنت من تدعيم حضورها في لبنان، فبات حلفاؤها يمتلكون الجزء الأكبر من السلطة، نتيجة تراجع الأدوار التي تؤديها القوى العربية ذات النفوذ في لبنان، ولاسيما المملكة العربية السعودية ومصر. فالتحولات التي شهدتها المنطقة العربية على مدى عقود أدّت إلى تبدّل الأولويات لدى القوى العربية النافذة، فباتت مصالحها وضروراتها الأمنية هاجسها الأساسي، وبات لبنان في درجة متأخّرة على سُلّم الاهتمام.
أولوية المصريين اليوم هي الخروج من مأزق غزة، لكنهم يعيشون هواجس الاضطراب مع الجوار السوداني والليبي والأثيوبي. وبذلك، أصبح الاهتمام بالملف اللبناني في درجة أكثر تأخّراً. وأما السعوديون فيتصرفون وفقاً لمقتضيات براغماتية. وإذ أدركوا أنّ الخطر الأكبر الذي يهدّدهم يكمن في الخاصرة اليمنية، سارعت قيادتهم الجديدة إلى تطويق هذا الخطر الذي يهدّدهم، والمنظومة العربية الخليجية بأسرها، باعتماد سياسة «صفر مشكلات» مع إيران، والنأي بالنفس عن الصراع الشرس بين الولايات المتحدة وإيران. وهذه السياسة قادت إلى انفتاحٍ على المحور الشرقي، جرت ترجمته باتفاق بكين الذي أحدث انقلاباً في العلاقة بين الرياض وطهران وفي الرؤية السعودية للعالم.
اليوم، يريد السعوديون إبعاد أصابع طهران عن الخليج العربي، ما يتيح للمملكة أن تتقدّم في مسار الانفتاح والازدهار نحو الحلم الاقتصادي والسياسي الذي تعمل قيادتها الشابة لتحقيقه. وهذه الأولوية تستدعي مناخاً توافقياً مع إيران يسمح بوقف تورطها في الشؤون الخليجية الداخلية.
البعض يقول: بناءً على هذا المناخ، يصبح بديهياً أن يترك الخليجيون لإيران هامشاً آخر للتحرّك والتوسع، في مناطق أخرى من الشرق الأوسط والعالم العربي، ومنها لبنان.
ولكن بعض المطلعين يحذّرون من أنّ هذا التصور فيه شيء من المبالغة. فصحيح أنّ المملكة تريد إبعاد خطر إيران عن الخليج، كأولوية مطلقة، للتمكن من المضي في طريق الأمن والازدهار الدائمين، إلّا أنّ أي مقايضة لم تُعقد مع الإيرانيين، تقضي بإعطائهم دوراً أكبر في لبنان، مقابل عدم تورطهم في دول الخليج. وفي رأي هؤلاء، أنّ العامل الأساسي في توسّع نفوذ إيران في لبنان والإقليم لا يعود أساساً إلى تراجع دور القوى العربية التقليدية، بل إلى الانتصارات التي حققها حلفاء إيران في المعارك التي خاضوها، من العراق وسوريا إلى غزة ولبنان، والتي نجحوا في تثميرها لتكريس النفوذ سياسياً وعسكرياً.
وفي أي حال، استفادت إيران من واقع الإرباك الذي يعيشه الإسرائيليون والأميركيون في التعاطي مع ملفها النووي ونفوذها الإقليمي. ففيما يهدّد بنيامين نتنياهو بتسديد الضربات في عمق إيران، ويطلب شراكة الولايات المتحدة في هذا الشأن، فإنّ واشنطن فضّلت عدم التورط في المغامرة، في عهد دونالد ترامب وطبعاً في عهد جو بايدن. وهذا الإرباك يسمح لطهران بأن تمضي في تدعيم نفوذها. وبعد الحرب في غزة وجنوب لبنان، لن تمرّ أي تسوية في الملفين إلّا ممهورة بالتوقيع الإيراني.