Site icon IMLebanon

لننتبِهْ بشدّة إلى هذا المعيار الأميركي الجديد

من الآن فصاعدا هناك وصف أميركي جديد في الشرق الأوسط ستترتّب عليه نتائج خطيرة: إما أن تكون الدولة بنّاءة أو هدامة. وكل تحديد لمستقبل الدولة سيتعلّق في المرحلة المقبلة لا باعتدالها أو تطرفها، شريرة أو خيِّرة، متخلِّفة أو متقدّمة وإنما بنّاءة أو هدّامة.

منذ توقيع الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران يستمر صندوق “المفاجآت” في الشرق الأوسط بإطلاق تطورات وعلاقات ومصطلحات سياسية مختلفة عما سبقه، سبق هذا الاتفاق. التطور الأخير يتعلّق بالمصطلحات.

في خطاب افتتاحي في واشنطن لبرنامج “آفاق العالم العربي” البحثي الذي تعدّه مؤسسة كارنجي، أطلق وزير الخارجية الأميركي جون كيري يوم الأربعاء المنصرم (28 تشرين الأول 2015) تقسيما سياسيا جديدا للصراع في الشرق الأوسط والعالم العربي سيكون له، أي لهذا التقسيم، دوره ودلالاته على “البيئة” السياسية الجديدة في منطقتنا بعد الاتفاق الأميركي الإيراني.

يصنِّف الآن الوزيرُ الأميركي حرفيّاً قوى الشرق الأوسط بأنها فريقان: البنّاؤون والهدّامون.

من سيتحوّل إلى بنّاء ومن سيتحوّل إلى هدّام في مرحلة ما بعد سايكس بيكو البادئة؟

البنّاؤون والهدّامون… هذا جديد وهذا ذو معنى على ما تختزنه الأيام الشرقْ أوسطيّة من تحوّلات بادئة أصلاً… و كلمة “أصلاً” هنا تعني الاتفاق النووي.

من صراع قوى الخير وقوى الشر في عهد رونالد ريغان إلى محور الشر في عهد الرئيس جورج بوش الابن إلى صراع الاستبداد والديموقراطية في ولاية باراك أوباما الأولى إلى صراع البنّائين والهدّامين اليوم في أواخر ولاية باراك أوباما الثانية.

كل من هذه الشعارات إما “صنع” أحداثاً جِساماً في المنطقة وإما كان مظلّة تعبوية لأحداث جسام.

لنضع جانباً الشعار الريغاني الأول (الخير والشر) الذي كان عالميا ولم يقتصر على الشرق الأوسط وانتهى بسقوط الاتحاد السوفياتي. فالشعارات الأخرى خلقت مناخا صراعيا أدى إلى صعود قوى جديدة، الأصوليّون من جهة والنخب الشابة المتنورة من جهة ثانية، وترافقت هذه الشعارات مع انهيار مريع غير مسبوق لدول أربع هي اليمن وليبيا وسوريا والعراق. فشلت الحركات الشبابية في عدد من البلدان باستثناء تونس بينما صعد نفوذ الاسلاميين الأصوليين بنسخ جديدة أدت إلى استحداث دولة جديدة على أجزاء واسعة من سوريا والعراق بقيادة الكائن الحقيقي ولكنْ الغامض والمفتَعَل “داعش”. وخلال كل ذلك كان الصراع الأميركي مع إيران في ذروته على مدى نحو عقد وفيه حقّقت إيران أو ثبّتَتْ عددا من الاختراقات الجيوبوليتيكية غير المسبوقة في منطقة المشرق العربي الآسيوي ولكنها عُزِلتْ على مستوى آخر بالصراع السني الشيعي.

إذن العنوان الأميركي الجديد للمنطقة بعد الاتفاق مع إيران (الذي شاركت فيه الدول الكبرى أو 5+1) ليس استعادة الشعار القديم المستهلَك والمفلس عن الصراع بين المعتدلين والمتطرّفين الذي ساد في تسعينات القرن المنصرم بل هو الصراع بين “البنّائين والهدّامين”.

منذ الاتفاق الإيراني الأميركي بل حتى قبل توقيعه انفتحت أبواب جديدة وواسعة في الاستثمارات والتوازنات الاقتصادية ولكنْ في ما يعنينا هنا في الموضوع السوري حصل التالي:

الأبرز هو الدخول الروسي العسكري الصاعق على الحرب في سوريا.

التأييد المصري لهذا الدخول باعتباره يساهم في محاربة الإرهاب.

الهدوء الاسرائيلي الواضح حيال الدخول الروسي.

اجتماع فيينا يُدخِل إيران للمرة الأولى إلى طاولة دولية حول الأزمة السورية ومن شأن هذه الطاولة أن تفتتح مرحلة البحث عن حل سياسي للأزمة السورية ولو كان من المؤكّد أن هذا البحث سيستغرق سنواتٍ ليس فقط من التفاوض بل بالتوازي من التغييرات الميدانية والسياسية.

اجتماع جنيف حتى لو واجه صعوباتٍ ومفاجآتٍ سلبيةً هو عنوان لـ”طاولة البنّائين” من الآن فصاعدا. من يجلس حولها سيكون بنّاءً أي مشاركا في صناعة الشرق الأوسط الجديد وحدودِه الداخلية الجديدة، ومن لا يشارك لا “حصة” له وفي حالة الدول الصغيرة لا وجود.

لنقرأ كيف قدّم الوزير كيري الشعار الأميركي الجديد:

“أبعد من كل الإحصاءات الباردة، أبعد من المانشيتات اليومية للصحف…. أبعد من تأثير العنف على الشرق الأوسط… هناك كتلة انسانية … تتطلّع لتساعد بعضها البعض وتتشارك في العواطف من جيل إلى جيل آخر. وأبعد من تعقيدات تلك المنطقة هناك أيضا أمر أساسي يحدث: الصراع بين الذين يريدون فتح الجروح أو تركها مفتوحة وبين الذين يريدون ختمها ومعالجتها وبناء مستقبل الصراع بين الهدّامين والبنّائين هو الذي يوجِّه كل سمة من سمات السياسة الأميركيّة في الشرق الأوسط… هدفنا هو المساعدة على تأمين أن البنّائين والمعالِجين في كل المنطقة ستكون لديهم الفرصة لتحقيق هذه الأهداف…”.

من الآن فصاعدا هناك وصف جديد في الشرق الأوسط ستترتّب عليه نتائج خطيرة: إما أن تكون الدولة بناءة أو هدامة. وكل تحديد لمستقبل الدولة سيتعلّق في المرحلة المقبلة لا باعتدالها أو تطرفها، وبكونها شريرة أو خيِّرة، متخلِّفة أو متقدّمة وإنما بنّاءة أو هدّامة.

ولْننتبه بشدة إلى معيار من يريد فتح الجروح ومن يريد ختمها؟؟