صلابة الحريري تُفاجئ الجميع وتُربكهم… والبحث عن «السرّ الكبير» الكامن وراءه!
ضغوط فرنسية للسير بشروط «حزب الله» في حكومة تكنو ـــ سياسية لحسابات تخفيف الضغط عن إيران
نصر الله رفع سقف لاءاته… والتراجع يُشكِّل هزيمة له أمام بيئته وفي الصراع مع أميركا
ثمَّة حيرة قاتلة تُصيب الأطراف السياسية على ضفتي الحلفاء والخصوم لسعد الحريري حيال الصلابة التي يُبديها الرجل في موقفه منذ اندلاع الحركة الاحتجاجية في 17 تشرين الأول، والمستمرة منذ 44 يوماً. وهو لا ينفك يُفاجئ شركاءه في التسوية الرئاسية مع كل جولة من الضغوط التي تُمارس عليه، والتي يتمّ فيها استخدام سلاح الترهيب والغزوات المصغّرة لغزوة «7 أيار» 2008، إذ بدل أن يَستجيب، كما كانوا يتوقعون بناء على تجارب سابقة، كان ينتفض ويقلب الطاولة ليربك الآخرين.
والسؤال عن السرّ الكبير وراء صلابة الحريري لا يجد جواباً شافياً لدى الجميع، وحتى في محيطه أو لدى من يُظن أنه على معرفة بيّنة بما يدور في خلده، أو يحصل في دارته. تذهب التأويلات يميناً ويساراً وتُبدع المخيلات في حَبْكِ سيناريو من هنا وآخر من هناك، لكن أحداً لا يملك الخبر اليقين.
الرجل الذي قال يوم ترشيحه العماد ميشال عون لتولي سدّة الحكم في تشرين الأول 2016 إن «قراره مغامرة سياسية كبرى بشعبيته ومستقبله»، اختبر على مدى السنوات الثلاث الماضية حجم الخيبة لما اعتقد أنها «تسوية سياسية بكل معنى الكلمة» لإنهاء الشغور الرئاسي الذي وقف «حزب الله» خلفه على قاعدة «عون أو لا أحد». تحدَّث يومها عن تفاهمات توصَّل إليها مع عون، وأبرزها تحييد الدولة اللبنانية بالكامل عن الأزمة في سوريا، وعدم طرح تعديل على النظام قبل تحقيق إجماع وطني من كل اللبنانيين، واتفاق على إعادة إطلاق عجلة الدولة والمؤسسات والاقتصاد والخدمات الأساسية وفرص العمل، وإعطاء فرصة لعودة الحياة الطبيعية للبنان.
ما ظن أنه وقف للانهيار، ومَخرج لأزمة التعطيل والنتائج المترتبة عنها وبداية جديدة، تحوّل إلى مأزق وعجز وعمل مُمنهج على إضعافه وإضعاف موقع رئاسة الحكومة وصلاحياتها عبر خلق أعراف وممارسات للانقضاض على الدستور و«اتفاق الطائف»، وتعميق الخلل في موازين القوى السياسية من خلال قانون انتخابات أُعدّ بإتقان لتكريس مفاعيل التحوّلات التي أنتجها «اتفاق الدوحة» بفائض قوة السلاح عبر صناديق الاقتراع، والاتكاء على القانون لفرض «حزب الله» وحلفائه سيطرتهم على القرار اللبناني عبر أكثرية برلمانية.
سقط الحريري في فخ الأوهام، فإذا به يسير في مسار تنازلي بعدما آلت مغامرته السياسية إلى فقدان الغطاء السياسي الإقليمي والدولي الواسع الذي كان يتمتع به منذ اغتيال والده الشهيد رفيق الحريري.
لا شك أن دخول الحريري، أو على أقل تقدير دخول فريقه السياسي في شراكة المحاصصات الطائفية، وخروجه من عباءة الآليات التي تحكم عمل المؤسسات الدستورية والصلاحيات المناطة بها، عبر مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها الذي يقوم عليه النظام اللبناني، لتحل مكانها صيغة «الترويكا» أطاح بدور مجلس الوزراء كسلطة تنفيذية حقيقية، وكرَّس سلطة زعماء الطوائف كمرجعية وحيدة مقررة في تعيين حصص طوائفهم في الوظائف العامة وفي نهش الدولة واقتسام كعكة الصفقات وما يحتويها من فساد وإفساد، وجعله مُكبَّلاً ومُحاصراً في تحقيق أي إنجاز على مستوى معالجة الأزمات الاقتصادية التي دفعته يوماً إلى اعتبار «أن السياسة لا تُطعم خبزاً»، وهو كلام من المُستهجن أن يصدر عن رئيس السلطة التنفيذية الذي تُلقى على عاتقه المسؤولية السياسية لحكومته في الداخل والخارج، لكن هذا الانكفاء السياسي لم يُجدِ نفعاً لتحقيق اختراق اقتصادي.
وزاد من عمق المأزق، انكشاف لبنان عربياً ودولياً مع تحوله جزءاً من المواجهة الأميركية – الإيرانية بفعل دور «حزب الله» الإقليمي بوصفه ذراعاً عسكرية إيرانية، وانخراطه في الحروب الدائرة في ساحات الصراع في المنطقة، وممارسة واشنطن أقسى العقوبات عليه ضمن استهداف المنظومة الإيرانية، وسعيه الدائم للإفادة من لبنان حديقة خلفية اقتصادية للنظام السوري وطهران.
اليوم انحسرت الخيارات، بعدما دخلت البلاد في انهيار حتميّ على مختلف المستويات والقطاعات. وضاقت رقعة المناورة والمكابرة والإنكار رغم أنها لا تزال السمة الغالبة على مقاربة رئيس الجمهورية وفريقه السياسي و«الثنائي الشيعي»، وإن كان لكل فريق أسبابه وأهدافه وأجندته. والتهاوي السريع للوضع المعيشي – الاقتصادي – المالي في البلاد الذي يستلزم حكومة طوارئ عاجلة، والتحذيرات من السقوط في الفوضى مع ملامسة شبح الإفلاس العام، ما سيؤدي إلى تعاظم الحراك الثائر لا إلى بهتانه وتعبه وإلى قلاقل اجتماعية ومخاوف أمنية، يُقابله تمترس حلفاء المحور الإيراني خلف حسابات سياسية، بعدما رفع أمين عام «حزب الله» سقف لاءاته ورسم خطوطه الحمر برفضه حكومة تكنوقراط من شأنها أن تعطي ثقة داخلياً، وتحقق مطلب المنتفضين، وتؤمن الثقة أيضاً إزاء المجتمع الدولي الذي يضع شروطه الإصلاحية لمساعدة لبنان اقتصادياً وتنموياً والحؤول دون انهياره الكلي.
فاشتراط نصر الله حكومة تكنو - سياسية جعل هذا المحور أسير السقف الذي وضعه، ذلك أن التراجع عن تطعيم الحكومة بسياسيين سيُعد هزيمة له حيال جمهوره وبيئته أولاً، وأمام أميركا، ثانياً، باعتبارها صاحبة «الفيتو» على مشاركة «الحزب»، ما سيُشكّل هزيمة لإيران في مواجهتها مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فضلاً عن المخاوف من أن يؤول استبعاد رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل عن الحكومة إلى مزيد من إضعافه، فيما يراه «الحزب» راهناً حاجة أكثر من أي وقت مضى لتأمين الغطاء السياسي المسيحي وغطاء الحكم له، مع تأكيد أوساط متابعة أن لقاء نصرالله – باسيل ذو الساعات السبع خرج بتبني «الحزب» له خلفاً لعمّه.
الحريري الذي رمى الكرة مرة جديدة في ملعب عون – باسيل – نصرالله – بري ببيانه أنه خارج السباق الحكومي داعياً إلى استشارات نيابية لحسم التكليف، يُدرك أن ما عاد بإمكانه المخاطرة بما تبقى من رصيده، وأن الإتيان به مكبلاً ومحاصراً بشروط وأجندات لا تخدم هدف إنقاذ البلاد هو وصفة انتحار، تماماً كما هي محاولات الترقيع لتمرير الوقت عبر الضغط عليه لتعويم حكومة تصريف الأعمال وتفعيل عملها بالحد الأدنى، ذلك أنه لم تعد تنفع المسكنات بعدما وصلت الأمور إلى القعر.
يُفاجئ الحريري الجميع ويُربكهم، رغم استمرار الضغوط، والتي تمارس باريس كثيراً منها عليه لدفعه إلى مراعاة شروط «حزب الله» بحكومة تكنو - سياسية في حسابات لها تتعدى الحرص على لبنان إلى العلاقة مع إيران والمساهمة في تخفيف الضغط الذي تواجهه. ضغط فرنسا وصل، وفق معلومات رشحت من أوساط إقليمية، إلى حد التهديد بالتخلي عن دعمه، والرهان هو على أن يُليِّن موقفه، فهل يَفعل؟!