تأبى الحريرية السياسية أن تموت قبل أن تقضي على آخر نفس لآخر لبناني مقيم أو مغترب. إنهم غذاؤها الأثير الذي يستحيل عليها أن تحيا من دونه. ففي استمرار هلاك اللبنانيين، وتشرّدهم بين المنافي والمغتربات، يكمن جوهر حياتها ودوامه. وبالتوازي مع هذا الإصرار على رفض التسليم بالموت الأخلاقي، قبل السياسي المتحقّق، تعلو مستويات الوقاحة عند ورثتها المتوزعين هنا وهناك، يميناً تافهاً ويساراً (تائباً) منحطّاً، لتبلغ حد التنصّل الفاضح والفادح من كل الجرائم المرتكبة منذ قيامها وحتى اللحظة. فالحريرية هذه استهلت حياتها المقيتة، أول ما استهلتها، بتمويل بعض ميليشيات الحرب الأهلية وتسليحها (ميليشيا وليد جنبلاط وميليشيا زميله سمير جعجع…). وموّلت، كذلك، جولات المعارك الأخيرة التي شهدتها أسواق بيروت التجارية (البلد وليس الـ«داون تاون») للقضاء على أي فكرة لاستخلاصها أو ترميمها تسهيلاً لوضع اليد اللاحق عليها، وهو عين ما حصل، وعين ما قام عليه مشروع النهب الكبير الذي حمل اسم شركة «سوليدير» التي تولّت الجرف والمسح الكامل لأبنية ومعالم ذات قيم جمالية وتاريخية، ولم تكن أضرارها بذات أهمية، وكان من شأن الحفاظ عليها أن يحفظ المدينة وناسها الأصليين الذين صودرت أملاكهم وطُردوا خارجاً. وكانت «سوليدير»، كمفهوم وممارسة، الأساس السياسي والقاعدة الصلبة للمنظومة الحريرية التي تولت الإمساك بالبلد واستباحته ورهن مستقبله المتمادي.
الحريرية لعنة ضربت لبنان، كالطاعون الذي استشرى مطالع القرن الماضي وحصد أرواح الآلاف. وكالطائفية، المرض العضال، الذي تسبّب ويتسبّب بالحروب الدورية التي تقضي على الأرواح وتتسبب بمآسي التهجير والإبادة والفرز على ما شهدنا خلال جولات ما بعد الحرب التي سميت بمرحلة الإعمار، ولم تكن في جوهرها، المكشوف برغم المساحيق، غير هندسة بشرية وطبقية أقصت الفقراء وأبعدتهم إلى حيث يستحيل عليهم تلويث المشهد الذي داعب مخيلة رفيق الحريري وأصدقائه و«مخترعيه» ورعاته الإقليميين والدوليين.
اليوم، وأمام الاستعصاء الذي بلغه الحراك، وأمام المراوحة، غير المفهومة، التي تمنعه من التقدم بالاتجاه الصحيح القادر على برمجة ما يليق بخروج اللبنانيين، يستطيع سعد الحريري، بالأصالة عن نفسه الطافحة بالخفّة والمثقلة بالأخطاء، وبالنيابة عن والده المؤسّس والصانع الأول للمنظومة التي فتكت بالبلاد وأفقرت العباد، أن يتنفس الصعداء. فالجموع التي خُيّل أنها ثارت يوم ١٧ تشرين الأول، وهي حقاً ثارت، لم تلبث أن أضاعت الطريق الواضح الذي كان يفترض، لو عُمل على حمايته من «قطّاع الطرق» وأصحاب السوابق الجرمية ومرتزقة الـ«أن جي أوز»، أن يوصلها إلى قصره وقصور أشباهه الذين استباحوا المالين العام والخاص، ومعه وعبره مستقبل عشرات بل مئات آلاف اللبنانيين الذين وجدوا أنفسهم فريسة هذا وذاك من شذّاذ الآفاق والمضاربين الماليين والعقاريين اللبنانيين والعرب وبعض الأجانب، أو نهباً لغربة قاسية بعيداً عن عائلاتهم وأصدقائهم.
ويستطيع رياض سلامة ومعه شركاؤه منتحلو صفة «الهيئات الاقتصادية» أن يتراجع قلقهم وأن يستعيدوا ابتسامة الرضى عن النفس وأن يسترسلوا في ممارسة مهنتهم الأثيرة التي لا يجيدون غيرها: المزيد من النهب المنظم وغير المنظم. فـ «العاصفة» الحراكية لم تتجاوز الأسوار ولا يبدو أنها ستفعل!
طبعاً، لم يخلُ الأمر من بعض المخاطر. فالحشد الغاضب الذي ملأ الساحات، بدا لوهلة أنه يهدّد بهزّ الأركان والإطاحة بكامل «المغانم». لكن «العقول الثورية» التي سُمح لها، بفعل تردّد اليسار وضعفه (إقرأ: الحزب الشيوعي) ونقص الخبرة الشعبية والحزبية، وقلة الدراية السياسية، باختراق الصفوف، وتوجيه الحراك بما يخدم نادي القتلة واللصوص، قد نجحت في إفراغه من كل ما من شأنه التسبّب بالأذى لأصحاب الثروات المسروقة الذين هالتهم الغضبة وكادوا يولّون الأدبار لولا إدراكهم السريع ومسارعتهم إلى تنظيم صفوفهم وتوزيع أنفسهم بين الساحات، على ما فعل سمير جعجع ووليد جنبلاط وسعد الحريري الذي مثّل مسرحية الاستقالة ليعود ويندسّ بين المنتفضين من غير أن يتخلى عن موقعه المتقدم على رأس المنظومة الناهبة. وقد كانت اللعبة بارعة إلى حد جعلت المسؤولين عن وجع الناس وفقرهم والمتسببين بها يتابعون، وبراحة ما بعدها راحة، ما درجوا عليه من ألاعيب، وهو ما وجد ترجمته السريعة بشعارات فارغة المضمون وعناوين مضللة وتعميم مخلّ أمكن لها أن تجعله أقرب إلى الكرنفال المفتوح. الأمر الذي يكشف مرة جديدة ليس عن قدرات هذه المنظومة في تحويل التهديد إلى فرصة تسمح بمراكمة الأرباح، بل عن مدى هزال القوى السياسية والحزبية والاجتماعية المعنية بتقديم البدائل الحاسمة وصوغ الرؤى الإنقاذية. وينبغي الاعتراف أن نجاح أهل السلطة في مصادرة روح الحراك ما كان ليتم لولا تضافر جهودها وتوزيع الأدوار المحكم الذي تطلّب تراجع الحريري ومن يمثل خطوة قبل التقدم خطوات، وهو ما نرى تعبيراته الصريحة في علانية مساوماته السياسية والحكومية الجارية اليوم.
هناك من توهم أو تقصّد (عن سوء نية حتماً) تضليل الناس، بل ونجح، جزئياً، في أخذهم إلى حيث لا حاجة لوجودهم أصلاً. فالتصويب المركّز والممنهج على حزب الله هدف، حصراً، إلى التعمية على الفاعل الحقيقي الذي تجسّده الحريرية السياسية بوجوهها السلطوية التي تضم إلى الحريري وجنبلاط وجعجع نبيه بري وباقي الموظفين والصبيان وعلى رأسهم المدعو رياض سلامة، وتوفير المخرج الآمن لهم ولثرواتهم.
لنعترف بأن «التفاؤل الثوري» الأبله الذي سرى بين الحشود التي هبّت رافضة ومندّدة ومطالبة لا يسعه أن يحل محل «البرنامج»
لنعترف بأن فرص النيل من هذه العصابة، ونتيجة لهذه الاستراتيجية المضادة، قد تراجعت. ولنعترف أيضاً بأن «التفاؤل الثوري»، الأبله، الذي سرى بين الحشود التي هبّت رافضة ومندّدة ومطالبة، لا يسعه أن يحل محل «البرنامج»، على ما حاول فتية الثورة وفتياتها إيهامنا، خصوصاً بعدما ظهر أن أساس وفلسفة وأدوات وغاية البرنامج التغييري «السرّي» من قبلهم هو البناء على التفاؤل حصراً، بدليل تقصّد تغييب البرنامج وإعلان الأطر وتشكيل الهيئات والاحتفاء بها. واليوم، بالرغم من ضيق الخيارات، وانكشاف عقم ما اعتمد تجد من يصرّ على الإيغال في مغامرة الادعاء، والزعم، مواربة طبعاً، بالمقدرة على كسر المنظومة السلطوية بهتاف أو أكثر على منوال «هيلا هيلا هو» أو «كلن يعني كلن»… ليتأكد اليوم أن التفاؤل الثوري المصطنع كان الوصفة المثالية التي انتظرها أركان النهب المعروفون، إن لم يساهموا في صنعها.
لطالما كانت صناعة الاوهام متيسرة في لبنان، إلا أنها مع الحراك العابر للطوائف، ولأشكال الولاء القبلية، والنتائج الأولية التي تمخض عنها لجهة إقلاق راحة من اعتاد الاطمئنان وتخويف بعضهم، وحَمْل المرتكب بينهم على الخشية والاحتجاب عن المشهد قد حقّقت نقلة لافتة. خصوصاً بعدما ظهر أن أبناء المنظومة المجرمة إياها قد عاودوا استئناف مناوراتهم وألاعيبهم القديمة. وإلا ما هو التفسير الممكن لسفاهة محمد شقير ووقاحة فؤاد السنيورة وقباحة نقولا الشمّاس ومعاودتهم استئناف الظهور الإعلامي والإدلاء بدلوهم ناصحين ومحذرين ومقترحين! إن التفسير الوحيد أن بين هؤلاء من أدرك عقم ولا جدوى الصرخات والتحركات، وأن ما يجري لن يختلف عما كان سائداً قبل الهبّة الشعبية. وهو ما أتاح وسمح لواحد من أبرز أمراء الفساد والسرقة والنهب أن يتقدم الصفوف، وأن يعبر الطرقات المقفلة، وأن يدعي حتى امتلاكه لمقترحات إنقاذية، على ما نسمع ونرى اليوم.
قيل الكثير ولسوف يقال أكثر عن مسؤوليات الحريرية السياسية في ابتداع الموبقات وتشريعها وسنّها وجعلها، في كثير من الأحيان، دليل عمل وبرنامج سلوك وسلّم قيم. مسـؤوليات هذه الحريرية التي ترقى إلى مستوى الجرائم الكبرى هي موضوع إجماع اللبنانيين والأرجح أن لا أحد يجادل في صحة هذه الحقيقة إلا حفنة من المرتزقة والمتعيشين. ولعل محاولات التعمية الفاشلة عن هذه المسؤولية واختلاق الأكاذيب أو محاولة التخفيف من جسامة وقذارة ما قامت به من خلال التطاول المستمر والدائم على سلاح المقاومة وتصويره على أنه الحائل دون قيام الدولة فالأمر برمته مفبرك من ألفه إلى يائه والمقصود به ومنه إن لم يكن تهيئة المناخات فلتوفير الذرائع أمام العدوان القادم. كما يدل على مستوى الاستخفاف بالعقول ومعها الأخلاق. وهل يتساوى من قدّم التضحيات وحمى لبنان مع من استباحه سياسياً واقتصادياً وأمنياً واجتماعياً وثقافياً وفتحه أمام أجهزة المخابرات العالمية، بل وسلّم ويسلّم البيانات الشخصية لكل اللبنانيين غير آبه لا بالأمن القومي ولا بمسؤوليته عن حماية المعلومات الخاصّة بمواطنيه؟
إن المشكلة الفعلية التي تواجه الحراك اليوم تكمن في أن الكثير من توازنات الحكم الموزعة بالتراضي بين هذا الزعيم وذاك الأمير ما زالت تعمل برغم ما أصابها من أعطاب بنيوية. والمدخل إلى الحل يستلزم، بالضرورة، تعطيل آليات عمل هذه التوازنات من خلال معرفة حقيقة الأعطاب وطبيعتها وهو ما يستلزم خطاباً سياسياً وطنياً يأخذ بالاعتبار الموقع اللبناني في المواجهة ويبني عليه انطلاقاً مما يوفره الموقع الإقليمي من عناصر قوة لا غنى عنها.
يبقى أن نسأل عن المعنى السياسي من وقفة الشموع التضامنية مع ضحايا الإجرام السلطوي العراقي ومردوديتها على حراكنا الذي يراوح مكانه. والسؤال يشمل التوقيت الذي يبدو أن الهدف الضمني منه ينحصر بإعلان الانتساب إلى محور القتل الأميركي المسؤول الأول والوحيد عن مآسي المنطقة وعذابات أهلها بدءاً من فلسطين مروراً بسوريا والعراق وحتى اليمن السعيد بمقاومته الأسطورية في مواجهة الظلامية الوهابية ورعاتها الغربيين.