يبدو الرئيس سعد الحريري بعد استقالته من رئاسة الحكومة أقوى مما كان عليه قبل الإستقالة. قد تكون هذه المرحلة هي الأهم بالنسبة إليه من حيث موقعه السياسي في اللعبة الداخلية منذ بدأ ممارسة دوره رئيساً لتيار “المستقبل” بعد اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. لقد مرت تجربته في الحكم وفي خارجه بمحطات كثيرة خاض في خلالها مواجهات ودخل في تسويات. كان أحياناً قوياً وأخرى ضعيفاً، أو مستضعفاً، ولكن في هذه المرحلة يجعله عزوفه عن التمسك برئاسة الحكومة متحرراً من الوصاية التي كانت مفروضة عليه.
في كانون الثاني 2011 عندما فرضت عليه الإستقالة باستقالة 11 وزيراً من تحالف “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” مُني بانتكاسة لم يستطع أن يضع بعدها حداً لخروجه من الحكم. كان بالإمكان ألا يجعل هذا الخروج بمثابة الخسارة السياسية ولكنه بدا كأنه وضع نفسه خارج اللعبة عندما قرر أن يغادر لبنان في ما يشبه خيار العزلة السياسية التي فرضها على نفسه، مخلياً الساحة للحكومة التي تشكلت بقرار من “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي. يومها قيل أنه تم اكتشاف محاولة كانت معدة لاغتياله بواسطة سيارة مفخخة وأنه ترك لبنان لأسباب أمنية لم تتضح ظروفها الحقيقية.
التغيير الممكن
قوة موقف الرئيس سعد الحريري اليوم بعد استقالته لا تتأتى فقط من تموضعه السياسي. بعض هذه القوة مصدره عدم قدرة تحالف “حزب الله” والوزير جبران باسيل على تشكيل حكومة من دونه أو لا تحظى مع رئيسها المكلف بتغطية منه. مع أنه اختار قبل الإستقالة الإنفتاح على إمكانية إحداث تغيير في الشكل في الحكومة التي شكلها بعد الإنتخابات النيابية ربيع 2018 تحت سقف التسوية الرئاسية، إلا أن إقفال الأبواب أمامه حمله على اتخاذ القرار الصعب الذي لم يكن يريده ربما، ولكنه وجد نفسه أنه مجبر عليه بسبب نمو حركة المعارضة في الشوارع بعد 13 يوماً على انتفاضة 17 تشرين الأول. كان الحريري يشعر بعمق الأزمة التي يمر بها لبنان من خلال إعداد موازنتي العام 2019 ثم العام 2020 ومن خلال الأرقام الصعبة التي كانت عاصية على الحل ضمن سياق المعادلات الحسابية الرياضية العادية. بعد استقالة وزراء حزب “القوات اللبنانية” في 19 تشرين الأول بحث مع رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل و”حزب الله” والرئيس ميشال عون في إمكانية تعديل التشكيلة الوزارية لتجنب الإستقالة والدخول في نفق استشارات التكليف ومناكفات التأليف، ولكن المحاولة فشلت بسبب خلاف أساسي حول بقاء باسيل في الحكومة ومحاولة تسمية وزراء أربعة فقط يحلون محل وزراء القوات.
الخلاف مع عون ليس السبب
لم تكن استقالة الحريري بسبب الخلاف مع رئيس الجمهورية ميشال عون بل تحت ضغط الشارع. لا عون طلب منه الإستقالة ولا “حزب الله” ولا جبران باسيل. على العكس تمسكوا به حتى لا يستقيل من دون أن تكون لديهم أي قابلية لبحث أي تنازل من أجل إخراج الناس من الشارع. لا التعديلات التي أنزلت بسحر ساحر على موازنة 2020 التقشفية نفعت ولا الأوراق الإقتصادية التي تمت الإستعانة بها في لحظات الضعف ومحاولات غش الحراك. لذلك هذه الإستقالة لا تشبه بعض الإستقالات التي حصلت سابقاً قبل الطائف وبعده على قاعدة الخلافات التي كانت تحصل بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. والأزمة الحالية لا تشبه الأزمات السابقة أيضاً خصوصاً تلك التي حصلت في العام 1956 على عهد الرئيس كميل شمعون بعد حرب السويس عندما استقال الرئيس عبدالله اليافي وتم تكليف الرئيس سامي الصلح محله. ولا تشبه أزمة اعتكاف الرئيس رشيد كرامي في العام 1969 على عهد الرئيس شارل حلو لفرض اتفاق القاهرة. ولا تشبه ايضاً أزمات الرئيس سليمان فرنجية الحكومية مع الرئيس أمين الحافظ ثم مع الرئيس تقي الدين الصلح والرئيس رشيد الصلح ونور الدين الرفاعي والرئيس رشيد كرامي بين العام 1973 والعام 1976، عندما بدأت الإهتزازات الأمنية في ظل الخلاف بين اللبنانيين وتدخل المنظمات الفلسطينية في الحرب. وهي لا تشبه أيضاً الخلاف الذي حصل بين الرئيس رشيد كرامي والرئيس أمين الجميل بعد إسقاط الإتفاق الثلاثي في 15 كانون الثاني 1986 ذلك أن النظام السوري هو الذي فرض تلك المقاطعة.
استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري نتيجة استقالته هو، أتت بعد اتجاه معاكس للحرب ونتيجة التفاف شعبي واسع حول مطالب موحدة تتعلق بالرغبة ببناء دولة نظيفة يمكن أن يكون فيها مستقبل للبنانيين. وكانت نتيجة أيضاً لخطاب وطني جديد جامع ناتج من وعي عام للمشكلات نفسها ولتصور مشترك تقريباً لطريقة الخروج منها، والتخلص من الفساد ومحاربته عبر عملية إنقاذ تتولاها حكومة أخصائيين مستقلة حيادية موثوقة.
بين انهيارين
إذا كان البعض يشبه الإنهيار الحاصل في هذه المرحلة مع ما حصل في أيار 1992 وثورة الدواليب واستقالة الرئيس عمر كرامي فإن صورة التشبيه تبدو معاكسة نوعاً ما. تلك الإنتفاضة الشعبية قبل 27 عاماً جاءت نتيجة انهيار سعر صرف الليرة بعد إعلان مصرف لبنان عدم التدخل في دعم سعر الصرف فبلغ سعر الدولار نحو ثلاثة آلاف ليرة. بعد تلك الإنتفاضة الشعبية فرض النظام السوري حكومة الرئيس رشيد الصلح وانتخابات 1992 وأنهى مجلس الـ 1972 المطعّم بنواب معينين وقبل بأن يكون الرئيس رفيق الحريري رئيساً للحكومة من أجل الإمساك بالوضع الإقتصادي. بعد تبوئه هذه المسؤولية في ظل عهد الوصاية استطاع الرئيس رفيق الحريري أن يستعيد الثقة المالية وأن يعيد تثبيت سعر صرف الدولارعلى الـ 1500 ليرة بعد تعيين رياض سلامه حاكماً لمصرف لبنان. منذ ذلك التاريخ تم الحفاظ على هذا السعر ولم يكن من الممكن أن يسجل الرئيس سعد الحريري على نفسه بعد كل هذه التجربة، أن يعود سعر الدولار إلى عتبة الـ3000 ليرة وهو متربع على عرش رئاسة الحكومة.
من خلال استقالته، حرر الرئيس سعد الحريري نفسه من مفاعيل التسوية الرئاسية التي كانت تجعله أسيرها ومن تداعيات استقالته السابقة في 4 تشرين الثاني 2017 من السعودية. وإذا كان يعترض على عدم قرار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون تعيين موعد سريع للإستشارات النيابية فإنه يؤخذ عليه هو أنه قَبِلَ أن يتفاوض على مسألة تسميته رئيساً مكلفاً لتشكيل الحكومة الجديدة، وعلى تشكيلة هذه الحكومة مع رئيس الجمهورية ومع الوزير جبران باسيل ومع ممثلي الثنائية الشيعية الوزير علي حسن خليل والمعاون السياسي للأمين العام لـ”حزب الله” الحاج حسين الخليل، وذلك قبل أن تتم الدعوة إلى الإستشارات النيابية الملزمة. وهو وإن كان تمسك بشروطه للعودة إلى رئاسة الحكومة لجهة أن تكون تكنوقراطاً مستقلين لا سياسيين، أعطى لنفسه موقعاً ثابتاً في التركيبة السياسية وجعله كمن ينتظر على الجسر مرور جثث الإقتراحات البديلة التي شملت الوزيرين السابقين محمد الصفدي وبهيج طبارة والسيد سمير الخطيب وربما غيرهم أيضاً.
قصة مختلفة
على الأقل لم يختر الرئيس سعد الحريري هذه المرة الخروج من لبنان والإعتكاف كما فعل في العام 2011. كان عليه وقتها أن ينتظر أربعة أعوام تقريباً قبل أن يعود مدركاً أن هذه الغربة تبعده عن موقع القرار وعن الإمساك بشارعه وتياره. عندما سقطت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي باستقالة رئيسها نتيجة الفشل السياسي والإقتصادي، وعندما تم الإتفاق على أن يكون الرئيس تمام سلام الرئيس الذي سيسمى لتشكيل الحكومة الجديدة في آخر عهد الرئيس ميشال سليمان لكي تدير الفراغ، ذهب سلام إلى السعودية ليلتقي الحريري، وعندما تم اللقاء كانت قوى 14 آذار تعلن ترشيحه من بيت الوسط بغياب الحريري. اليوم تبدو القصة مختلفة. الحريري بقي في بيت الوسط. لم يغادر. وإذ أعلن عزوفه عن العودة إلى رئاسة الحكومة إلا بشروطه فإنه تحوّل إلى المعبر الذي لا يمكن أن تمر أي حكومة جديدة إلا من خلاله، وإلا إذا التزم أي رئيس جديد يمكن تسميته بهذه الشروط. ولكن إذا كانت هذه القاعدة ملزمة ومطبقة فلماذا لا يكون هو رئيساً لهذه الحكومة؟
من أسوأ ما يقال عن التفاوض مع الرئيس سعد الحريري ما يتعلق بأنهم يمكن أن يتركوا له وزارتي الداخلية والإتصالات ومجلس الإنماء والإعمار وغيرها، مقابل أن يقبل بأن يترك لهم وزارات الدفاع والطاقة والخارجية والبيئة والمالية بمعنى أن يبقى القديم على قدمه مع تغيير بعض الاسماء. أي تركيبة من هذا النوع تعني اغتيالاً سياسياً للرئيس سعد الحريري في الوقت الذي ينتظر فيه إصدار المحكمة الدولية الحكم في قضية اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، الذي يقال أن أحد أسباب التمسك به رئيساً للحكومة يتعلق بهذه المسألة تحديداً من أجل احتواء ردود الفعل. قد يكون هذا الأمر صحيحاً ولكنه من ضمن سلة أسباب أخرى. ولذلك تبقى قوة الرئيس سعد الحريري المستقيل في رفضه لهذه الشروط وفي تمسكه بموقفه، إذ لا تجديه نفعاً العودة إلى السراي الحكومي تحت سقف تسوية جديدة تجعله أسيراً لها.