Site icon IMLebanon

الحريري أيضاً ينتظر على ضفّة النهر

 

لم يندفع الرئيس سعد الحريري نحو المعارضة الفورية لحكومة الرئيس حسان دياب كما توقّع البعض، بل فضّل أن يعطيها ما يشبه «مهلة سماح»، ولو محدودة، متجنّباً التسرع في إصدار أحكام مبرمة عليها، وفق ما يعكسه مضمون تغريدته امس. فهل قرر الحريري ان يحجز له مكاناً على ضفة النهر أيضاً، منتظراً مرور جثة الحكومة ليبني على الشيء مقتضاه؟

يفترض الحريري انّ استقالته عقب انتفاضة 17 تشرين الاول كانت شراً لا بد منه، أو ممراً إلزامياً لا مفر منه، لأنه لم يكن في مقدوره، وفق خطابه المعلن، الاستمرار في ترقيع ثوب ممزّق وتجاهل صرخة الناس المنتفضين على السلطة والناقمين عليها.

 

وبمعزل عمّا اذا كانت «الاعتبارات الوجدانية» فقط هي التي دفعت الحريري الى الاستقالة تجاوباً مع نبض الشارع أم أنّ هناك حسابات من نوع آخر كانت تقف خلفها، الّا انّ ما بات واضحاً هو انّ الرجل فقدَ منذ ذلك الحين إحدى اهم اوراق الضغط والتأثير، وبات مصيره السياسي رهينة إرادة الآخرين، بحيث اضطرّ في نهاية المطاف الى الخروج من السباق الى السراي الحكومي ببطاقة حمراء مباغتة من «القوات اللبنانية».

 

صحيح انّ الحريري أجاد «التكتكة» والمناورة في المرحلة الفاصلة بين إعلان استقالته وقرار عزوفه عن تولّي رئاسة الحكومة. وبالتالي، تمكّن من حرق الاسماء التي حاولت وراثته في السراي خلال تلك الفترة، لكن حين حان أوان حصاد محصول التكتيك، تبيّن له انّ حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر، وبالتالي تَعثّر في خطوته الأخيرة ليصبح بين ليلة وضحاها خارج معادلة السلطة.

 

منذ هذا التحوّل في المشهد، بدأ الحريري تحضير نفسه لمرحلة سياسية جديدة، منطلقاً من انّ هناك حاجة الى إعادة صوغ دوره وموقعه وفق ما يتناسَب مع طبيعة الواقع المستجد، عملاً بالقاعدة التي تقول بتحويل التهديد فرصة. وبهذا المعنى، يتصرّف الحريري على أساس انه كان في حاجة الى استراحة على مقاعد الاحتياط بين شوطين في السلطة، ليعيد ترتيب أوراقه وترميم شعبيته واستنهاض تياره وتقويم تجربته في السلطة ومراجعة علاقاته مع الحلفاء والخصوم، وهذه كلها مقدمات ضرورية للعودة مجدداً الى رئاسة الحكومة في الوقت المناسب.

 

ولعله يمكن تصديق الحريري عندما استعجل في إحدى تغريداته السابقة إنجاز التأليف، لأنّ من شأن ذلك ان ينقل كرة الاعباء والاتهامات من ملعب الحكومة المستقيلة التي كان متّهماً بالتقصير في تصريف اعمالها الى ملعب الحكومة الجديدة، وصولاً الى وضع الرئيس حسان دياب في دائرة التصويب والهجوم بدلاً من أن يستمر الحريري في تَلقّي السهام بالنيابة عنه خلال الوقت الضائع أو الميت وفق روزنامته السياسية، خصوصاً أنه أصبح مقتنعاً بأنّ عودته الى رئاسة الحكومة مؤجلة حتى إشعار آخر.

 

وتعتبر شخصية سياسية، على معرفة وثيقة بالحريري، أنّ الرجل افترض، بعدما قطع الأمل في استعادة منصبه، أنّ كل يوم يمر من دون تأليف الحكومة هو مهدور وغير محسوب بالنسبة إليه، في حين أنّ ولادتها ووضعها في الخدمة يعنيان أنّ عدها التنازلي بدأ بمعزل عن المدة التي سيستغرقها رحيلها.

 

وتؤكد تلك الشخصية انّ الحريري، وخلافاً لانطباعات البعض، يعرف ماذا يفعل، والى أين يذهب، وهو يملك تصوراً واضحاً لطبيعة الازمة الحالية، ولخيارات التعامل معها، «فلا تستهينوا او تستخفّوا به، والأكيد انّ الرجل يختلف عما كان عليه قبل سنوات».

 

والحريري لن يكون عاطلاً من العمل أثناء وجوده خارج الحكم، اذ هناك مهمة اساسية تنتظره، على الأرجح، وهي ان ينفض عن جسمه السياسي مخلفات التسوية المكلفة مع الرئيس ميشال عون والوزير جبران باسيل. وبالتالي، التحرّر كلياً من قيودها، تمهيداً للتصالح مع بيئته وجمهوره بعدما خسر جزءاً منهما بفِعل انخراطه في تلك التسوية.

 

ثم انّ الحريري سيحاول الاستفادة من زخم الحراك لمحاصرة حكومة دياب وإحراجها، من دون أن يتورّط شخصياً في فتح معركة مُبكرة ضد دياب قبل ان يكون قد أخذ فرصته المشروعة، خصوصاً انه سيتّهم، في حال انقضاضه التلقائي على الحكومة الجديدة، بأنّ معيار «قُم لأجلس مكانك» هو الذي يحرّكه.

 

وعليه، فإنّ الحريري سيكون مرتاحاً ما دام الحراك ينوب عنه حالياً في محاولة تهشيم صورة الحكومة، لكن ما يحصل أحياناً هو انّ التحركات الاحتجاجية تتجاوز الحد المتناسب مع سقف «بيت الوسط»، وخصوصاً عندما تنقلب الى أعمال شغب في وسط بيروت الذي يمثّل رمزاً عمرانياً واقتصادياً للمدرسة الحريرية، ما يضطرّ رئيس تيار «المستقبل» الى إصدار مواقف تُبقيه على مسافة من العنف الذي يدور على الارض وتنأى به عن المجموعات التي تستخدمه.

 

من هنا، فإنّ الحريري يكون مرتاحاً بمقدار ما يبقى غضب المتظاهرين موجّهاً ضد دياب وحكومته حصراً، إلّا أنه يصبح متضرّراً عندما تصيبه شظايا مفرقعات الغضب، خصوصاً انّ بعض المحتجّين الفقراء الآتين من طرابلس وعكار الى الـ«داون تاون» لا يخفون نقمتهم على رئيس تيار «المستقبل» حيث يتهمونه بأنه «خذلهم إنمائياً وسياسياً»، علماً انهم يعكسون في سلوكهم الحاد ميلاً الى «الثأر» الطبقي والاجتماعي الذي يبدو انه لا يميّز بين الحريري وسواه.

 

ومن هنا، يجب على الحريري أن يلتفت الى دلالات الغضب المتفاقم عليه في البيئة الشمالية تحديداً، والتي كانت تشكّل في السابق خزّاناً شعبياً لتيار «المستقبل» في كل الاستحقاقات، فإذا بجزء منها يصبح على خصومة مع «بيت الوسط» وساكنه.

 

وبمعزل عن دور الحراك وفرَص استثماره في مواجهة الحكومة، هناك من يلفت الى انّ الحريري لا يحتاج الى بَذل جهد كبير لإسقاطها وان يتحمّل مسؤولية ذلك، بل يكفيه أن يجلس مُترقّباً ومراقباً في مقاعد المتفرّجين لأنّ الازمة الاقتصادية – المالية هي من الحِدة والخطورة الى درجة أنها ستنفجر عاجلاً أم آجلاً بين أيدي حكومة دياب وتحالف «التيار الوطني الحر» و8 آذار الذي منحها غطاءه، فهل هذا ما سيحصل؟ أم أنّ حكومة الاختصاصيين ستحقق المفاجأة وتصنع معجزة الانقاذ؟