في قراءة هادئة لمرحلة ما بعد الحوار الذي انعقد في بعبدا الأسبوع المنصرم، والإصطفافات السياسية التي سُجّلت على قاعدة المشاركة فيه أو مقاطعته، لا سيما بالنسبة لعلاقة سعد الحريري مع القوى المسيحية لاحظت مصادر سياسية مسيحية أن الرئيس الحريري في قرارة نفسه، يعتبر أن مصلحته القصوى هي بالإبتعاد عن الأقوياء من المسيحيين لأسباب محض سلطوية. وعلى الرغم من أن 14 آذار جمعت الحريري و«القوات اللبنانية»، ولكن سمير جعجع لم يتمكن من إقناع الرئيس الحريري بضرورة إقرار قانون إنتخابي يعيد التوازن الميثاقي المفقود منذ العام 1990، وهذا القانون لم يُقرّ إلا نتيجة ضغط وصول الرئيس ميشال عون إلى قصر بعبدا وضغط الدكتور جعجع، اللذين أدّيا إلى القانون الإنتخابي.
كذلك، تابعت المصادر، رأى الحريري أنه من خلال تعاطيه مع عون، وعلى غرار جعجع، لا يستطيع نيل النتيجة التي يريدها، فيما هو يعتبر أن مجرد التحالف مع أحزاب مسيحية أخرى يستطيع من خلالها القول أنه عابر للطوائف أولاً، ويتمكن ثانياً من الدفع باتجاه تغيير قانون الإنتخابات، وثالثاً ينجح في توسيع كتلته النيابية، وزيادة عددها لأنه لمس بشكل واضح، أنه في ظل قانون انتخابي عادل، لا يستطيع أن يمتلك تكتل نيابي فضفاض على غرار ما كان عليه سابقاً، حيث أن تكتل «المستقبل»، وفي دورتي 2005 و2009، كان عدد النواب المسيحيين يوازي عدد النواب المسلمين، فيما أظهرت الإنتخابات النيابية الأخيرة أن نائباً واحداً يحظى بتمثيل داخل كتلته وهو النائب هادي حبيش، بينما المرشحين المسيحيين الآخرين، أو النواب الذين كانوا في تكتل «المستقبل» وترشّحوا منفردين، في الأشرفية مثل سيرج طور سركيسيان، لم يحصلوا إلا على مئات الأصوات في الإنتخابات النيابية.
وبالتالي، أضافت المصادر السياسية المسيحية، فإن كل هذه المواجهة التي يفتعلها مع المسيحيين الأقوياء تهدف إلى إعادة توزيع رقعة تمدّده على الشارع المسيحي، لأنه يدرك أنه أمام تراجعه داخل بيئته السنّية بسبب دعم «حزب الله» لسنّة 8 آذار، أو بسبب أنه لم يعد يستقطب الشارع السنّي كما كان في السابق على غرار مرحلة العام 2005، لذلك عملياً فهو لا يستطيع أن يضاعف أو يزيد من عدد نوابه إلا على حساب المسيحيين، لذلك عمد إلى مخاصمة عون وجعجع معاً، تمهيداً لتغيير قانون الإنتخاب، مما يمنحه وضعية أفضل.
في موازاة كل ذلك، اعتبرت المصادر، أنه من الواضح أن الحريري لا يرتاح إلى جعجع السيادي الطابع، الذي تقول عنه عواصم القرار السعودية وواشنطن أنه عارض العهد، بينما الحريري يقول أنه لا يستطيع، مما أدى إلى انزعاج داخل بيئته السنّية التي تعتبر أن جعجع لا يتنازل، بينما الحريري يساوم، وبالتالي، يريد الحريري التخلّص من هذا المناخ.
في المقابل، فإن عون سلطوي الطابع على غرار الحريري، ولذا فإن رئيس «التيار الأزرق» لا يستطيع التعامل مع شخص بهذه السلطوية الحادة، والتي لا تمكّنه من تعزيز مكانته السلطوية، إضافة إلى أنه من الناحية العملية، لهذا فإن الحريري اختار الخروج من الإثنين معاً، والعودة إلى تحالفات سياسية مختلفة على غرار ما كان عليه الوضع في السابق مع «المردة» والكتائب، وبالتالي، يستطيع من خلال هذه التحالفات أن يحقّق ما عجز عن تحقيقه على صعيد السلطوية، لذلك، بدأ الحريري بقطع الجسور مع جعجع من أجل إسقاط مبدأ المقارنة التي يجريها الشارع السنّي، أم التي تجريها عواصم القرار، ومن أجل وضع حدّ لسلطوية عون في المرحلة المقبلة، فإن الحريري يرى أنه لا يستطيع تعزيز مكانته في السلطة إلا من خلال تحالفات جديدة على قاعدة المقايضة للوصول إلى تعزيز وضعيته داخل شارعه بشكل خاص، وهذا ما يفسّر تموضعاته الأخيرة.