استفاق الجميع أخيراً من سبات عمره من عمر جمهورية الطائف. أدركوا، بثمن باهظ جداً، كلفة «تركيب الطرابيش» المالي المستمر منذ أيام الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ومن لم يفعل، تكفلّت المصارف خلال الأيام الماضية بإخراجه من كهف الجهل الذي قوقع نفسه فيه.
ربما يكون الأمر مبرراً للبعض. في النهاية، لا أحد يرغب في الاستفاقة من حلم جميل وردي اللون. عاش اللبنانيون العقود الثلاثة الماضية على وسادة الحريري الأب، هذا العملاق المالي والدولي القادر على أن «يتدبّر» أمر البلد «الماشي». ومن بعدها، اتكأوا على عكاز «حاكم»، أقنعوا أنفسهم بأنّه من نوابغ هذا القرن، بشهادة كبريات المؤسسات المالية الدولية.
ولما ساءت الأحوال، لجأوا إلى الماورائيات السياسية. أقنعوا أنفسهم بأنّ استقرار لبنان حاجة دولية، وبأنّ الغرب لن يسمح لـ»قطعة السماء» هذه بأن تقع. ما جرى من حولهم ربما ساهم في تعزيز هذا الوهم. مصر، مع وصول الرئيس محمد مرسي إلى سدّة الحكم، في ظل حال من الانهيار الاقتصادي والمالي (وصل الاحتياط في مصر إلى 15 مليار دولار، بالكاد تكفي ثلاثة أشهر لشراء القمح والسكر والشاي)، سارعت قطر إلى إمدادها بوديعة مالية. وما كادت أن تُسحب بعد سقوطه، حتى سارعت السعودية والامارات والكويت إلى تعزيز النظام الجديد بالنقد، قبل أن يؤمّن له صندوق النقد الدولي رزمة مساعدات من 12 مليار دولار. كذلك حال البحرين، التي تلقّت مرتين في السنوات السابقة دعماً مالياً، كان آخرها هذا العام بقيمة 10 مليارات دولار أمّنتها الرياض.
في الحقيقة، لم يكن هذا «الباراديغم»( النموذج) حكراً على طرف دون الآخر. أصدقاء أميركا كانوا مقتنعين بأنّ الغرب لن يتركهم ولن يسمح لخصومهم بأن يسيطروا على البلد ويستبدوا بهم. كذلك كانت حال محور المقاومة، ليس فقط للسبب السالف الذكر، بل أيضاً ربطاً بتداعيات الفوضى التي لا بدّ من أن تدفع اللاجئين وكثيراً من اللبنانيين إلى التدفق نحو أوروبا التي عانت ما عانته بفعل التطورات السورية ما بعد 2011، ناهيك عن تأثيرها على أمن إسرائيل.
مسلّمة تخضع اليوم لاختبار جدّي. غاب عن ذهن المروّجين لها أنّ أموراً كثيرة قد تغيّرت خلال الأعوام الماضية. أميركا، التي أرسلت 120 ألف جندي إلى المنطقة عام 2003، بدأت بمغادرتها. أداؤها في ملفات عديدة، يتقدّمها الملفان الإيراني والسوري، إن دلّ على شيء فعلى أنّها لا تريد المواجهة. ممارساتها مع الأكراد أظهرت مدى وفائها لحلفائها! بل أكثر من ذلك. لم يفكّر أحدٌ في أنّ الفوضى في لبنان ربما أصبحت فرصة لواشنطن وليست تهديداً. فرصة لتكريس واقع التوطين في هذا البلد، ولإغراق «حزب الله» في وحول حاضنته الاجتماعية بعد أن تضربها الفاقة والجوع، ومعها شعب بكامله بدأ يفقد كل مقومات الحياة.
لكن في المقابل، هناك مسلّمة أخرى تجد نفسها اليوم أمام اختبار من الطراز نفسه. المقصود تلك المقولة الرائجة حول أنّ «حزب الله» مقيّد بفعل الأزمة المالية التي تعانيها إيران، مع ما تعنيه من امتدادات تطال ميزانيته الخاصة. لا أحد يدرك ما الخيارات التي يمكن أن يلجأ إليها الحزب فعلاً إذا ما وجد نفسه محاصراً دولياً، بل مهدّداً في كينونته، ليس عسكريّاً، إنما مجتمعياً. من قال إنّه لن يقلب الطاولة، ليس في لبنان فحسب، وإنما في الإقليم كله، ديدنه في ذلك، «إن كان لا بدّ من السقوط، فليسقط الجميع».
العمل بواجب الاحتياط يدفع إلى الاستنتاج أنّ الأوضاع مفتوحة على كل الاحتمالات. الثابت الوحيد، في ظل لعبة المحاور الإقليمية، أن هناك شعباً مقهوراً دخل في مستنقع الفقر بعدما ضاعت ودائعه ومدخراته (في إفريقيا، زعامات نهبت المواد الأولية والموارد الطبيعية. وفي العراق، زعامات نهبت النفط. وحده لبنان، في سابقة تاريخية، زعماء نهبوا شعباً بكامله).
معادلة تفرض نفسها اليوم على مفاوضات تأليف الحكومة. الرئيس سعد الحريري يدرك جيداً أنّ أي حكومة لا تلبّي مطالب الغرب ستكون عاجزة عن أي إجراء فعلي يمكن أن يساعد في بلسمة النزيف المالي والاقتصادي. وموافقته على تسيّد حكومة كهذه ستكون كمن يرمي كرة النار في حضنه. وقد بات واضحاً، حتى الآن على الأقل، أنّ الطرف الآخر لن يرضى بأن يقدّم للأميركي ما عجز عن الحصول عليه بالحديد والنار من عدوان تموز إلى حرب سوريا.
طريق مسدود تبدو نهاياته يخيّم عليها شبح الـ75. فهل يكون اللبنانيون هذه المرة على قدر المسؤولية ويجنّبوا أبناءهم دوامة عنف لا بدّ من أن تدمّر الجيلين المقبلين.