فوضى الأسواق والدولار والوضع المعيشي التي بلغها لبنان تنسحب أيضاً على حقائق الوضع السياسي العبثي الذي يتسبب بكل ما نعيشه هذه الأيام، بحيث باتت الحقيقة ضائعة. من لا يأبه للفوضى يعمل مسبقاً على إضاعة المسؤولية عمن يتحمل وزر ما نحن فيه.
أحد عوامل الفوضى تسميم السوق الإعلامي بالمعلومات المضلِّلة لإلهاء المحللين ووسائل الإعلام بمتاهات ودهاليز تتشعب مثل ممرات النمل، وتملأ الشاشات والإذاعات وصفحات الجرائد، وتغريدات “تويتر”، إما بإسقاط التمنيات على الواقع، أو نتيجة جهل بالحقائق، أو بتقصد بث المعطيات المزورة. في أي من الحالات الثلاث يتم حجب الوقائع الفعلية.
الواقع الذي يستحيل تزويره هو الاختناق الذي يحوّل حياة اللبنانيين إلى جحيم يخرجهم إلى الشارع.
لا يقتصر الأمر على قلب الحقائق في الإعلام، بل يتعداه إلى الدول وبعثاتها الديبلوماسية، والحلفاء بين بعضهم البعض. والتسريبات تقول منذ أسبوع أن الوسيط المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم تبلغ موافقة الرئيس ميشال عون على فكرة رئيس البرلمان نبيه بري (توزير من ليس معنا وليس ضدنا) بأن تكون الحكومة من 18 وزيراً اختصاصياً غير حزبيين، لا ثلث معطلاً لأي فريق فيها، على أن يسمي عون وزير الداخلية ويوافق عليه الرئيس المكلف سعد الحريري، من بين عدة أسماء، لكن “التيار الوطني الحر” سيحجب الثقة عن الحكومة. التسريبة أشارت إلى رفض الحريري، وأنه بات في موقع من يعرقل، فيما مصادره أوضحت أنه لم يتلق عرضاً حتى يرفض أو يوافق. رفض الوساطة قبله رئيس “التيار” جبران باسيل الذي جدد الإصرار على الثلث المعطل، على رغم بيانات الرئاسة و”التيار”، بنفي ذلك. باسيل لم يغادر الفكرة. ومع أن وفد “حزب الله” في موسكو، التي تجاهر بمعارضة الثلث المعطل، أبلغها أن باسيل أقلع عن هذه “الآفة” بعد وساطته، فإن الديبلوماسية الروسية اضطرت للتحقق من الأمر فجاءها الجواب بالنفي.
بينما وجد بعض المنغمسين في البحث عن مخارج أنه كان من الأفضل للحريري أن يقبل ليكشف بذلك مدى العرقلة من الفريق الرئاسي المعروف بأنه سيتمسك بما يرفضه المجتمع الدولي والفرقاء المحليون بالإجماع، أي الثلث المعطل، فإن عون وصهره لا يتأخران في “إنقاذ” الحريري من أي تهمة بالعرقلة، فيلبسانها.
أحد أوجه تسميم السوق الإعلامي أن البعض أخذ يبني حسابات على الشائعة بأن الحريري ينتظر موافقة السعودية المعترضة على تأليف الحكومة برئاسته. المطلعون على موقف الرياض يعتبرون هذا الاتهام من صنع من فشل في إتمام الاستحقاق الدستوري، فيفتعله لتبرير الفشل، وهو دليل على تسببه بالفراغ الحكومي.
ربط التأليف بانتظار الحريري معرفة موقف الرياض، محاولة لإقحامها في شأن أخذت على نفسها عدم التدخل فيه، على رغم مطالبة فرقاء لها بأن تدلي بدلوها، من دون أن تتجاوب تاركة معالجة الخلاف الحكومي لتوافق اللبنانيين، في وقت هناك إجماع دولي على معايير إصلاحية، تضمن تقديم المساعدة للبنان. المسؤولون في المملكة لم يتراجعوا عن دورها في مساعدة لبنان في المؤتمرات الدولية التي انعقدت، ولا سيما مؤتمر روما لمساعدة الجيش اللبناني، ثم مؤتمر “سيدر” ثم المؤتمر برئاسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 9 آب بعد انفجار المرفأ. والرياض كانت هيأت لظروف إطلاق تنفيذ 22 اتفاقية بين البلدين في العام 2019. ولو سارت الأمور كما يجب لكان تطبيقها ساهم في الانتعاش الاقتصادي.
حبل الفوضى قصير على رغم ضررها.