في السياسة لا مجال لحالات الحرد، فهي لا تخدم أي شخصية أو حزب أو تيار وتؤدي ولو بعد حين إلى القضاء على المصابين بها فيعزلون أنفسهم أو يبادر أخصامهم إلى عزلهم بذرائع متعددة.
في السياسة ولا سيما عند المحترفين بممارستها لا يجب أن تشكل الخسارة في أي قضية تراجعاً واستنكافاً عن لعب دور في الحياة الوطنية، بل يجب أن تكون حافزاً من أجل انطلاقة جديدة تبدأ بمراجعة نقدية واضحة تحدد الأخطاء والمسؤولين عنها وتطلق دينامية جديدة هدفها ليس العودة إلى وضع ما قبل الخسارة فحسب، بل تخطيه باتجاه فرض واقع سياسي جديد يقوم على المصارحة وإعادة كسب الشعبية ومواجهة الخصوم بوضوح ومن دون أي مواربة تفرضها تسويات بنيت أو تبنى على رمل المصالح.
قد يكون “تيار المستقبل” بزعامة الرئيس سعد الحريري هو الأكثر معاناة في هذا المجال وقد أتى الموضوع الحكومي الأخير ليزيد من حال اللاإستقرار السياسي الذي يعيشه هذا التيار، فشعر بحال من العزل من قبل الخصوم والحلفاء، حال لم يكن يتوقعها لأن بعض من في “التيار الأزرق” كان يعتقد أن من الصعب إن لم يكن من المستحيل المضي قدماً في أي عملية حكومية أو سياسية في البلد من دونهم وأنهم سيبقون حاجة لا يمكن التخلي عنها حتى ولو أعلنت هي أنها تريد إخراج نفسها من اللعبة الحكومية.
حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر فأحرج الخصوم والحلفاء الحريري وأخرجوه وسط لامبالاة دولية وعربية، ليصبح أمام واقع جديد وهو كيفية العودة إلى الساحة بفعالية. لا يبدو أن التحركات في الشارع ستؤدي إلى تحقيق العودة أو تسهيلها لأن المشكلة في مكان آخر، فلبنان في قلب الانهيار والبدء بعملية الانقاذ أصبح أمراً ملحاً ولو صعباً ولا يمكن هدر المزيد من الوقت من أجل تأمين عودة الرئيس الحريري بشروطه، وأصبح واضحاً هنا أن “الثنائي الشيعي” ورئيس الجمهورية و”التيار الوطني الحر” أسقطوا كل التسويات والتقديمات مع “تيار المستقبل” ووصلتهم إشارات إقليمية ودولية أن بإمكانهم المضي قدماً في حكومة لا يرأسها الحريري، شرط أن تحظى بثقة الشارع وثقة المجتمع الدولي والأهم ألا تكون نسخة ولو منقحة عن الحكومات السابقة، وجاءت هذه الإشارات إثر التبدل الواضح والصريح في موقف الرئيس ميشال عون و”الوطني الحر” بشخص الوزير جبران باسيل لجهة القبول بحكومة اختصاصيين ومستقلين.
رغم كل ذلك لا يزال “تيار المستقبل” والرئيس الحريري يملكان العديد من الأوراق التي تتيح لهما التأثير بقوة في المجريات السياسية إذا ما أحسنا إستغلالها، وقد يكون في مقدمها إحياء التحالف مع “الحزب التقدمي الاشتراكي” و”القوات اللبنانية” على أساس الاعتراف بالأخطاء المتبادلة وقيام معارضة بناءة وفعالة، تتصدى لكل الملفات الملحة والعاجلة في السياسة وغيرها وهذا ما قد يعيد أيضاً ثقة الشارع السني بالقوة التي ما زالت تمثل النسبة الأكبر فيه، كما يفترض إعادة تقييم للعلاقات العربية والدولية من أجل إعادة بناء الثقة والدور، لا سيما وأن بعض هذه القوى يمكن القول إنها ورطت الرئيس الحريري ببعض الخطوات والمواقف التي ساهمت بإلحاق الضرر به.
في الخلاصة لا أحد يستطيع إخراج الرئيس الحريري وتياره من الساحة السياسية إلا إذا اختار هو هذا الخروج، ولكن العودة القوية إلى هذه الساحة لا تتم إلا بعودة الحريري إلى ذاته في السياسة والتي جسدتها شعارات ثورة الأرز عقب استشهاد والده.