يواجه سعد الحريري أصعب الاستحقاقات في حياته. فلا هو قادر على عدم تأليف حكومة جديدة. وفي الوقت نفسه يواجه ضغطاً كبيراً من الداخل والخارج للسير بتسوية ما. المسألة هنا تتعلق في كون الحريري لا يمكنه الخروج من السلطة الآن. واذا اجبر على هذه الخطوة، فهو سيبدأ بزرع الالغام على طول الطريق التي يفترض ان تسلكها من التكليف الى التأليف الى جلسة الثقة.
عدم رغبة الحريري بأن يشكل غيره الحكومة ترتبط بمصيره. الحديث، هنا، عن بطالة كاملة. عن تقاعد مبكر غير مضمون النتائج. عن اعتزال مبكر لكل أنواع الأعمال السياسية والتجارية. عن اعتكاف يقود صاحبه الى الابتعاد تدريجياً عن الأنظار حتى يصبح منسياً. عن مغادرة تعني الهروب الى أقاصي الارض بحثاً عن ملاذ آمن.
رئاسة الحكومة، بالنسبة إلى الحريري، تعني كل مستقبله. تعني مستقبله السياسي كواحد من زعماء لبنان، لا يمكنه، من دون السلطة والمال، قيادة تياره ولا كتلته النيابية في مواجهة صقور يريدون انتزاع الزعامة منه احتجاجاً على قلة دراية أو نقص في الوضوح أو تردّد في المواجهة. تعني مستقبل علاقته مع الناس في المناطق والقطاعات حيث انفرط عقد التيار ليعود الى جمعيات، النفوذ فيها لمن يملك القدرة على الدفع أو رفع الصوت. تعني فتح أفق الاعمال التجارية الجانبية بعد توقف المصدر الاول للرزق في السعودية والعالم. والعزوف عن الرئاسة يعني تعرضه لعزل من العائلة نفسها، في مواجهة زوجة والد لم تعد تطيق كل تصرفاته، وإخوة يتوزعون بين من يقاطعه ومن يحاربه مباشرة وعلناً، ومن لم يعودوا يرون في لبنان حتى مكاناً للعيش.
رئاسة الحكومة تعني لسعد الحريري الحصانة الفعلية في مواجهة مئات المعارك القانونية في لبنان والسعودية والامارات وغيرها. تعني حصانة تحول دون اعتقاله على باب طائرته الخاصة في عاصمة ما والتحقيق معه ومصادرة طائرته وما معه من حلي وثياب. تعني حصانة لا تزال تفتح له أبواب قادة وحكومات وأجهزة وشركات في العالم بصفته لا بشخصه. حصانة تقيه شر العزلة التامة التي تحوله الى رقم منسيّ إذا ما قرّر خصومه ذلك. حصانة تحول دون اعتقال وسجن أكيدين في ما لو زار السعودية كحامل لجنسيتها فقط. عندها، لن يقيه أحد في العالم شر «الدب الداشر».
رئاسة الحكومة تعني للحريري مركز نفوذ متنوع في لبنان وقابل للاستخدام في المحيط القريب والبعيد. تعني بقاءه في ظل حماية أمنية محلية وإقليمية ودولية، وهو هاجس صار يسكنه كما حال العائلات الحاكمة في بلادنا والعالم. تعني البقاء على التواصل مع جهات قوية في لبنان يمكنها أن تمحو رقم هاتفه من ذاكرة هواتفها لو استقال. وهي تحول دون سقوط ما تبقّى من هيبة له بين رجال أعمال وسماسرة وشركات تخشى قدرته على تعطيل أعمالها أو عرقلتها. وتعني، أيضاً، قدرة على استمالة ناس من هنا وهناك باسم الطائفة والموقع والبلاد.
كل ذلك يعني، ببساطة، أن الحريري لن يترك رئاسة الحكومة من دون قرار كبير يتخذه من يملك القدرة على تقرير مصيره السياسي. تجربة الاحتجاز في السعودية لم تمنحه قوة مقاومة لعدم تكرار التجربة، بل يبدو أن الايام القليلة التي أمضاها في معتقل مرفّه، أصابته بمتلازمة استوكهولم التي تجعل الرهينة أسير دونية غير مفسّرة أمام خاطفه. وهو الذي ضعف وارتبك وخاف من مصارحة الناس بحقيقة ما حصل معه، وتراجع عن محاسبة من خانه وتآمر عليه من أبناء بيته، وأبناء تياره، وأبناء جلدته ايضاً. وأصابته عوارض إطلاق السراح المشروط، فلا هو قادر على شكر من ساعده على الخروج من أزمته، ولا على الجهر بحقيقة من أعانه وأخرجه من سجنه بالقوة لا بالدبلوماسية. وهو الذي لم يقدر حتى على بقّ البحصة التي تحولت كتلاً خرسانية تعطل كامل جسده.
الذين يعرفون سعد الحريري جيداً يتحدثون عن مفاجآت في شخصه هذه الايام. عصبيّته وطريقة أكله للسيجار، لا تدخينه، وعلاقته مع طعامه أو نبيذه الفاخر، وطريقة جلوسه داخل الدار وخارجها، كل ذلك لا يعكس ارتياحاً، بل ضيقاً شديداً يرفع من منسوب توتره الشخصي.
واللافت أن الرجل الذي عُرف ببساطته السياسية وقلة حنكته في إدارة التحالفات والملفات، «أصيب» فجأة بنوبة من دهاء غير مسبوق. وما يقوم به في سياق ملف تشكيل الحكومة الجديدة، يعيد الى الأذهان حكايات بيروت عن مفاوضات صائب سلام ورشيد كرامي وآل الصلح. حتى والده لم يكن يهتم بالطرق الملتوية. وربما كان الحضور السوري في القرار النهائي مانعاً للمناورات. لكن، رغم ذلك، لم يكن رفيق الحريري يحتاج الى ألاعيب جانبية.
هل هو فعلاً محتجز هذه المرة لكن في بيروت، أم خاطف لرئاسة الحكومة، لا يريد تركها لحظة ويحضنها في سريره كأعزّ من ألف عشيقة؟
وحتى لا يبدو أن في الامر إهانة شخصية، لنقل إن سعد يحيط نفسه، أو إن هناك من يحيطه، بمن هم قادرون على التلاعب بالحقائق بطريقة افضل، وعلى درجة من الحنكة غير المسبوقة في بيت الوسط: من إبعاده المتعِبين من حوله، المعروفين بكثرة الكلام وقلة الافعال، الى إدارة شارعه الغاضب لألف سبب غير ملف رئاسة الحكومة، الى تعامله مع الازمات الهائلة التي تمر بها البلاد، الى طريقة إدارته مرحلة تصريف الاعمال، إذ يهمل ما يتعبه في الاقتصاد والادارة ويمسك بما يفيده في الامن والمال. والاهم طريقة إدارته النقاش مع المرشحين لخلافته في رئاسة الحكومة. فيظهر في غالب الاحيان كزاهد في الحكم، وغير مهتم بتفاصيل تشكيل الحكومة، وراغب في الابتعاد للاستراحة، لكن، سرعان ما يصبح شيخاً في السياسة، له باعه في النصح والمشورة. وما يخرج من فمه ليقع مباشرة في أذن من يطمح لخلافته، يتحول رصاصاً يجعل منافسه صريعاً فاقداً لأهلية الدور.
أما ملاحظاته، أو وصاياه، فهي، ببساطة شديدة، ليست سوى المطالب الواضحة لتحالف السعودية – أميركا الذي يدرج لبنان ساحة مركزية في معركته المفتوحة مع إيران ومحور المقاومة. وهي معركة لها أبعادها السياسية والعسكرية والاقتصادية. لذلك، يكون الحريري واضحاً في مطالبه:
أولاً: لا تراجع عن السياسات المالية والاقتصادية ولا خيارات سوى الإقرار ببرامج الخصخصة الكاملة، وضرورة تأبيد وجود رياض سلامة في حاكمية مصرف لبنان.
ثانيا: إضعاف التيار الوطني الحر من خلال منع رئيسه جبران باسيل من الدور الوزاري المباشر، وحرمانه من حقائب اساسية تجعله قليل القوة في مواجهة خصمه الرئيسي سمير جعجع.
ثالثاً: تعزيز استقلالية الجيش وقيادته عن سلطة رئيس الجمهورية ووزارة الدفاع، ومنع التعرض لقائد الجيش العماد جوزيف عون ومدير الاستخبارات العميد طوني منصور، والإقرار بهامش خاص لعمل الجيش على طول حدود لبنان الجنوبية والشرقية والشمالية والغربية.
رابعاً: إفساح المجال أمام بقاء حالة «غليان الشارع» لكن في وجهته ضد عون وحزب الله، والسعي الى انتخابات نيابية مبكرة تعدل ميزان القوى داخل المجلس، وتفتح الباب أمام طرح انتخابات رئاسية مبكرة.
هنا، يصبح السؤال حول واقعه أمراً حتمياً: هل هو فعلاً مختطف، لكنه محتجز هذه المرة في بيته في بيروت؟ ام هو يحسن لعب الدور، فيتحول الى خاطف لرئاسة الحكومة، يحملها معه في تنقلاته بين الغرف والطوابق ويحضنها في سريره كأعز من ألف عشيقة؟