IMLebanon

ترشيح الحريري لفرنجية ومآلاته

ليس غريًبا أن يرشح رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري٬ وزعيم الطائفة السنية٬ سليمان فرنجية٬ لأن مناصريه (السنة) عَّودوه دائًما على الاصطفاف معه إن ذهب شمالاً أو انحرف يمنة. فالحريري يزداد شعبية كلما أوغل حزب الله في التفرد في القرار اللبناني٬ وترتفع أسهمه لدى الطائفة السنية كلما هاجمه الجنرال عون بلغة تبتعد أحياًنا عن الرزانة. هذا الالتحام السني٬ لنكن صرحاء٬ ليس نابًعا من صوابية سياسات الحريري إنما من مخاوف الطائفة على وحدة البلد٬ ومن خوفها على انفراط هيبة الزعامة السنية في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البلاد.

اعتقد النائب سعد الحريري بأنه الزعيم الأوحد للسنة٬ وأن بوسعه٬ مثل وليد جنبلاط٬ الذهاب بالطائفة إلى أقصى اليمين ومنه إلى أقصى اليسار؛ وترشيحه لسليمان فرنجية يعبر عن ذلك٬ لكنه اصطدم هذه المرة بجدار ممانعة شعبية لم يكن يتوقعها. هذه الممانعة التي تجسدت غضًبا في وسائل الاتصال الاجتماعي٬ دفعت الأمين العام لتيار المستقبل٬ أحمد الحريري٬ إلى تخويف الطائفة بأن معارضة الترشيح سيترتب عليها إراقة دماء! المتمعن في عبارة «إراقة الدماء» يستشف مدى صدمة  القيادة الحريرية من ردة الفعل السنية٬ ومن جمهور لبنان أولاً. لكن النائب سعد الحريري بدلاً من تفهم تلك المعارضة٬ وإبداء الأسباب الموجبة لقراره٬ مضى قدًما بالترشيح٬ مؤكًدا على لسان نوابه أن الترشيح هو لمصلحة لبنان! وبالمناسبة٬ فإن عبارة «لمصلحة لبنان» أصبحت سمة حريرية بعدما برر زيارته لبشار الأسد في سوريا بأنها لمصلحة لبنان. لم يسترسل الحريري ويكشف لجمهوره كيف يفسر مصلحة لبنان؟

يقول مطلعون٬ مبررين هذا الترشيح٬ إن سعد الحريري يعاني من أزمة مالية ولم يعد قادًرا على دعم تياره٬ ولا على توفير خدمات لمؤيديه٬ وإنه مع غياب أية بدائل أخرى٬ أصبح لزاًما عليه العودة إلى السلطة لكسر الجمود في ملف الرئاسة اللبنانية. ويرى آخرون أن ثمة توافًقا إقليمًيا (إيرانًيا ­ سعودًيا) ودولًيا (أميركًيا ­ فرنسًيا) على ترشيح فرنجية٬ وأن الحريري في ظل هذا التوافق تحرك ليظهر بأنه يضحي بمصالحه الخاصة من أجل حساب الوطن. وثمة من يقول إن الحريري قد رأى في هذا الطرح وسيلة لإحراج معسكر الممانعة وإحراج عون وحزب الله.

لا شك أن مسألة الأزمة المالية ليست مقنعة٬ لأن الحريري لم ُيعرف عنه نهب المال العام٬ بل إن ماله الخاص كان دائًما في خدمة القضايا العامة٬ ولأبيه أياٍد بيضاء لا ينكرها إلا كل جاحد. أما مسألة التوافق الإقليمي٬ فهي الأخرى أوهى٬ لأن الخلاف السعودي الإيراني على درجة ساخنة تمنع التلاقي٬ ولا سيما في لبنان٬ وبالتحديد في قضية الترشيح٬ لأنها تنطوي على إعطاء إيران ما تريد وعلى طبق من فضة؛ وضح السفير السعودي لدى لبنان أن السعودية مع أي مرشح يجمع عليه المسيحيون؛ مما يعني أنه طالما بقي جعجع بالذات معارًضا٬ فإن السعودية لن تؤيد الترشيح. كذلك ترى إيران أن ترشيح فرنجية الموالي لسوريا هو ورقة رابحة٬ إلا أنها ورقة ملغومة لأنهاُتدخل الخلاف إلى البيت الممانع٬ وبالتحديد مع الجنرال عون الطامح وبشغف للرئاسة. يبقى الطرح الأخير بأن الحريري رغب من وراء ذلك شق صف الممانعة٬ وهو طرح متهاٍو لأنه يفترض سذاجة حزب الله ومعه إيران وهما على درجة عالية الدهاء لا تنطلي عليهما هذه المراوغة.

الأرجح أن الترشيح كان قراًرا شخصًيا٬ لأن الحريري أحس بأن أزمة الرئاسة طالت٬ وأنه رأى٬ بعد مباحثاته مع جنبلاط وبري٬ واستشارة مقربيه٬ أن الحل هو بتحريك المياه الراكدة٬ وتقديم فرنجية لكونه الأضعف مسيحًيا من حيث الشعبية والثقل ليملأ الكرسي الرئاسي٬ وعلى أمل أن يستهوي المركز فرنجية ويقدم تنازلات ضرورية تجعله مقبولاً من تجمع «14 آذار». وبما أننا لسنا بصدد مناقشة ما يراه بري وجنبلاط٬ فإن الحريري بترشيحه هذا٬ إذا صحت الرؤية٬ يكون قد ارتكب الخطيئة الثالثة بعد تحالفه الانتخابي عقب استشهاد والده مع حزب الله٬ وبعد زيارته للعاصمة السورية. بهذا الترشيح كشف الحريري أنه غائب عن هواجس طائفته٬ وغير عابئ بحساسياتها٬ وأنه يؤمن بأنه قادر على أن يفعل ما يريد! كما أنه بطرحه فقد المبرر الديمقراطي الذي يتباهى به٬ لأنه لم يستشر حتى محازبيه٬ ولا حتى نوابه الذين تفاجأوا٬ واضطروا لاحًقا٬ لأسباب شخصية٬ أن يؤيدوه على مضض. كما أنه لم يعر حلفاءه أي اهتمام وبالتحديد حليفه سمير جعجع٬ وبالذات  في ملف يقع في صميم الاهتمام المسيحي؛ لقد تفاجأ جعجع ومعه الرئيس أمين جميل٬ وكثيرون من قيادات الاستقلال المسيحية.

لا شك أن ترشح فرنجية خلط الأوراق٬ وحرك المياه٬ لكن٬ بالوقت ذاته٬ كشف هشاشة التفكير السياسي لتيار المستقبل٬ وفقره الديمقراطي٬ وتهاونه بمشاعر طائفته؛ وكشف أيًضا قصوره في فهم المتحولات الإقليمية وارتباطها بأجندات دولية إيجاًبا أو سلًبا٬ بعدما تبين أن الترشيح لقي مباركة متحفظة دولًيا٬ لكن عارضتها إرادة إقليمية ترى أن ربحية فريق تعتبر خسارة كبرى للآخر. كما تبين أن الترشيح لم يكن مبنًيا على تنازلات مسبقة قدمها فرنجية٬ بل تمنيات بأن يقدم تنازلات٬ علاوة على أن «الترشيح» فكك تحالف الاستقلال٬ ودفع سمير جعجع إلى حضن الجنرال عون بإصدارهما ما يسمى إعلان النيات٬ وأصبحا بالتالي رقًما صعًبا خارج المعادلة الحريرية. كما أظهر أيًضا أن الحريري يبيع حلفاءه بسرعة بينما حزب الله يْصدُق في قوله٬ ولا يتراجع حتى ولو كان البديل المقدم مرشًحا لا يقل ولاًء عن عون؛ ولأنه يرى في عون مرشًحا مثالًيا٬ بينما الحريري لم يكشف لنا مثالية ترشيحه لسليمان فرنجية.

كشفت مبادرة الحريري أن تيار المستقبل لم يرَق بعد إلى مستوى الحزب٬ ولم يزل محكوًما بإرادة الزعيم٬ وأن آلياته الديمقراطية المفترضة غائبة٬ وأن نوابه مرتبطون بزعيم الحزب أكثر من ارتباطهم بناخبيهم. كما أثبتت أيًضا وجود هوة عميقة وتزداد عمًقا بين الناخبين والقيادة في التيار٬ وأن السير قدًما بهذا النمط من السياسة٬ ما لم يحصل العكس٬ لن يكون مردوده خيًرا لا على التيار ولا على الطائفة ولا على مصلحة لبنان