هدأت سريعاً على جبهة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري ورئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع. اكتفي القواتيون من تغريدة الحريري الهجومية بالتحية الصباحية، ملتزمين بالتمني الذي طالبهم به جعجع بعدم الدخول في دوامة الرد والرد المضاد، بعدما جرى وضع هجوم الحريري في خانة “سوء فهم للنص الذي ورد في مقابلة الحكيم”، ولذا كان القرار المركزي بعدم الردّ حرصاً على “الصديق والحليف سعد الحريري”.
غير أن هذا الهدوء لا يخفي الكثير مما كشفه أمس كلام جعجع لصحيفة الأهرام المصرية، وردّ الحريري عليه. ففي مضمون الكلامين إشارة الى وجود “جرح عميق وخلاف سياسي متجذّر وقلوب مليانة”، رغم حرص الطرفين على تطويق الخلاف والتزام عدم توسيعه، في محاولة للحفاظ على “خط رجعة” ما إلى علاقة قديمة اهتزّت في أكثر من محطة.
وكان جعجع قد اعتبر في حديث لصحيفة الأهرام المصرية انتشر أمس أن “الظروف كانت غير مناسبة على الإطلاق لتولي الحريري رئاسة الحكومة وكان من الممكن أن تكون نهاية له هذا اعتقادنا وحساباتنا”. ليرد عليه الحريري عبر تويتر قائلاً: “بونجور حكيم، ما كنت عارف انو حساباتك هالقد دقيقة. كان لازم أشكرك لانو لولاك كان من الممكن انو تكون نهايتي. معقول حكيم؟ انت شايف مصيري السياسي كان مرهوناً بقرار منك؟ يعني الحقيقة هزلت. يا صاير البخار مغطى معراب او انك بعدك ما بتعرف مين سعد الحريري”.
وكأن جعجع كان يودّ القول للحريري إن قرار “القوات” كان لمصلحتك بدليل وضع رئيس الحكومة اليوم، في حين جاء ردّ الحريري بفيض من غضب يختزنه تجاه رئيس “القوات” لا يبدو أنه وليد ساعته. ورغم قساوة ما قاله الحريري، وما يتضمنه من رسائل مضمرة، كان هناك تمنّ من رئيس “القوات” على نوابه ومحازبيه بعدم الرد في محاولة للملمة الخلاف. حرص لم يكن الحريري بعيداً منه بدليل أن مصادر “بيت الوسط” وضعت ما حصل في إطار الرد على كلام قيل، لأن الحريري ليس في وارد المساجلة السياسية عموماً، ومع “القوات” على وجه الخصوص.
أسس الخلاف
لكن هذا الحرص لم يستطع أن يذهب بعيداً في إعادة ترتيب العلاقة بين الطرفين، على الرغم من محاولة أكثر من صديق مشترك تقريب المسافات بين الحريري وبين جعجع منذ خروج الأول من رئاسة الحكومة. باءت هذه المحاولات بالفشل لأن الداخل في الوساطة كان يخرج بانطباع أن ما بين الرجلين “خلافاً سياسياً متجذّراً”، و”قلوب مليانة على خلفية عدم التكليف”. ما يعني أن الموضوع يتجاوز حديث جعجع الصحافي ورد الحريري عليه. بل إن ما حصل أمس يعيد الصديق المشترك إلى الحديث عن أسس الخلاف وبداياته، فيقول إن الخلاف بدأ منذ وافق جعجع على القانون الأرثوذكسي، ثم تطوّر مع الاستحقاق الرئاسي، وصولاً إلى الأزمة التي واجهها الحريري في السعودية العام 2017. إذ يقول الصديق “ظن جعجع ان استقالة الحريري منسّقة مسبقاً مع السعوديين وتصرّف على هذا الأساس”. هذا التبرير لم يُرضِ الحريري آنذاك، وبين مد وجزر استمرت العلاقة باردة بين حليفين فشل كل منهما بإقناع الآخر بوجهة نظره. وعندما أراد جعجع الاستقالة من الحكومة، إثر تظاهرات 17 تشرين، طلب منه الحريري التمهل ولم يلتزم. وفي خضمّ كلّ هذه الخلافات، كان سلوك الحريري في الحكومة موضع نقد من “القوات”، إذ رأوا فيه انصياعاً لباسيل. استقال جعجع ثم الحريري، إلا أن الخطيئة الكبرى التي لم يهضمها الحريري لغاية اليوم كانت تجنب “القوات” تسميته لرئاسة الحكومة.
مخاوف من “التركيبة القديمة”
وما تتجنّب “القوات” البوح به حرصاً على العلاقة، يفصح عنه مطلعون ممن يلمسون أن الحريري يُحمّل مسؤولية عدم وجوده في السراي لـ”القوات” التي رفضت تكليفه. ويؤكد المطلعون هنا على اعتبارين اثنين هما:
أولاً، إن ما قاله جعجع بأن وجود الحريري في السراي كان ليكون نهايته صحيح، بدليل أن القرار اليوم في الحكومة هو قرار سياسي عند الطرف الآخر فهل لو كان لا يزال رئيساً للحكومة كان سيحل موضوع الكهرباء أو المعابر أو التشكيلات القضائية؟ وكأن لسان حال جعجع يقول للحريري هنا: بوجود “حزب الله” و”التيار الوطني” لن يكون بمقدورك تقديم شيء إضافي فدعهم يفشلون. وبينما يرى الحريري انه كان بإمكانه تقديم الحلول ترى “القوات” استحالة ذلك في ظل هذا الجو.
الأمر الثاني مرتبط بأداء الحريري في الحكومات السابقة، ومسايرته لرئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل وتجنب المواجهة في ملفات جدية كان يواجهها بالسؤال “شو فينا نعمل”؟ في هذه النقطة بالذات كانت “القوات” تعتبر انه كان بإمكانها والحريري فعل الكثير لولا ان الحريري تجنب التصادم مع الأطراف الاخرى.
ما تتخوّف منه “القوات” وفق ما يلاحظ مقربون ان يكون الحريري قرّر العودة الى التركيبة القديمة، أي إلى جانب رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، ضمن علاقة ربط نزاع مع “حزب الله” وضمناً مع “التيار الوطني الحر”. وهي ترى أن الحريري ورغم كل الخلاف مع باسيل، لن يتردد في العودة إلى الشراكة معه في حال شعر بأن الوقت مناسب. فهل يقصد المقرّبون القول إن الحريري يريد التنصّل من العلاقة مع “القوات” بشكل نهائي ليمرّ عبر هذه الخطوة الى عهده القديم مع الطرف الأضعف على الساحة المسيحية أي “التيار الوطني” من دون أن يرغب بتوازن مع الآخرين؟
“لا قطيعة”
في المقابل، تبتعد مصادر مقرّبة من “بيت الوسط” عن حديث النوايا كما ترفض الحديث عن مقاصد لدى الحريري من ردّه، مؤكدةً أنه “لا يضع نصب عينيه افتعال مشكلة مع “القوات اللبنانية” أو مع رئيسها سمير جعجع، جلّ ما في الأمر أنّ الحريري رد بتغريدة على كلام صدر وإذا توقفت الأمور عند حدها فهذا جيد”. ذلك أن “المستقبل” لا يبحث عن خلافات سياسية لا سيما مع “القوات اللبنانية”. وترى “القوات” أن ما حصل يؤكد ضرورة عقد لقاء بين الحريري والحكيم لحل “أمور عالقة” يصعب حلّها إلا من خلال عقد مثل هذا اللقاء. في وقت لم تستبعد المصادر المطلعة على أجواء “بيت الوسط” وجود أصدقاء مشتركين “يعملون على خط المعالجة ذلك أن في السياسة لا قطيعة نهائية حتى ولو اعترى العلاقة خلاف في وجهات النظر”.