إذا أعلنت الرياض موقفها بوضوح من ترشيح النائب فرنجية، فسيكون ذلك محطة حاسمة: الحريري سيلتزم، وجعجع سيعرف إلى أيّ حدٍّ هو «مدعوم». ولكن، حتى الآن، الرياض تتأنّى.
مسألة ترشيح فرنجية، من أوّلها إلى آخرها، مرتبطة بالتطوّرات الجارية في سوريا ولا سيما مؤتمر فيينا وما سيصل إليه. فالجميع اكتشف أنّ الرئيس بشار الأسد بات يضمن مستقبله هناك في التسوية وبَعدها.
ولذلك، الجميع يراجع حساباته على هذا الأساس. النائب وليد جنبلاط يريد الاحتفاظ بـ»شعرة معاوية» مع آل الأسد مباشرة، لـ»حساب خط الرجعة». ففرنجية مرتبط بالأسد أوّلاً، وليس كـ»حزب الله» المرتبط بإيران أولاً. وفي أيّ حال، إنّ «أبناء العائلات» يفهم بعضهم على بعض. ولذلك، خرج جنبلاط بالفكرة التي لم تخطر في بال أحد، وعمل على إقناع الرئيس سعد الحريري بها.
للأسباب إيّاها، وافق الحريري على طرح جنبلاط. وفي اقتناع كثيرين أنّ الأسد لن يكون في المرحلة السورية المقبلة قادراً على مدِّ نفوذه إلى لبنان، بل سيكون تحت الرقابة الدولية المشدّدة، وكذلك الحدود اللبنانية- السورية. وتلقائياً، في التسوية السورية، سيعود «حزب الله» إلى لبنان، وسيكون سهلاً علاج سلاحه.
إذاً، يقدِّم كثيرون نصائح للحريري بألّا يخاف من تبنّي فرنجية. وإذا ضغط الأميركيون والفرنسيون على بكركي والأحزاب المسيحية من خلال الفاتيكان، فسيوافقون على فرنجية، وستمرّ غيمة «الزعل» مع مسيحيّي 14 آذار سريعاً.
في أفضل الأحوال، إذا تمّت التسوية الشاملة بانتخاب فرنجية، سيكون لجنبلاط والحريري وسيطٌ ممتازٌ مع «الأسد المستقبَلي» المفترَض أن يكون مختلفاً عن «أسد الماضي». ولكن، إذا لم تنجح الصفقة، فسيكون فرنجية ممتنّاً للرجلين ومَديناً لهما بطرح اسمه لرئاسة الجمهورية. وهذا أيضاً كافٍ لتثميره في وساطة مع الأسد.
وثمّة مَن يقول إنّ الحريري، كأيّ رجل أعمال في العالم، لن يضيره شيء في المشاركة في إعادة إعمار سوريا المستقبَلية، والتي قدَّر أكلافها البنك الدولي بـ170 مليار دولار، خصوصاً أنّ تقلّص حجم استثماراته خارج لبنان بات يسمح له بالبحث عن استثمارات جديدة.
وأيّاً يكن الأمر، فلن يخسر الحريري شيئاً بمبادرته هذه، وسط الفراغ السياسي القاتل:
داخلياً، هو يلمّع صورته كصانع رؤساء الجمهورية، ولو كان بعيداً عن الساحة. وتالياً، هو يفرض موقعه في لعبة السلطة، ويقطع الطريق على أيّ «ترهُّل» يصيب القاعدة الحريرية، قد يستفيد منه الخصوم داخل الطائفة السنّية.
أما خارجياً، فهو يثبت رصيداً ورثه من والده لدى الأميركيين والفرنسيين والفاتيكان. كما أنه يوجّه رسائل عميقة المغزى في بعض الاتجاهات العربية. وهنا يتداول خصوم الحريري كلاماً مفاده أنّ الرجل اندفع إلى طرح إسم «حليف الأسد» لرئاسة الجمهورية بعد ظهور مبادرات سعودية معيّنة تجاه شخصيات سنّية محسوبة على محور دمشق- الأسد، كالنائب عبد الرحيم مراد الذي زار الرياض أخيراً مرتين ويُقال إنه عاد مرتاحاً إلى الأجواء.
ويقول الخصوم إنّ هناك توجُّهات عدة في المملكة إزاءَ الملفات الساخنة، من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان. ولم يجرِ حسم التوجُّهات إزاءَ بعض الملفات حتى الآن. ولذلك، ينتظر العديد من حلفاء المملكة في هذه الدول، ومنهم الحريري، أن يُصار إلى حسم التوجُّه السعودي في هذه المرحلة ليبنوا على الشيء مقتضاه.
ولهذا السبب، تضيف أوساط الخصوم، أراد الحريري أيضاً من خلال الانفتاح على فرنجية أن يبعث برسالة مثلثة:
– إنّ الحريري يبقى ممرّاً إجبارياً لأيّ استحقاق، وهو قادر على خلط الأوراق وقلب الطاولة عندما يريد.
– إنّ تيار «المستقبل» متماسك تحت قرار الحريري.
– لا مجال للعب أوراق أخرى داخل الطائفة السنّية محسوبة على 8 آذار، لأنّ «المستقبل» قادر هو أيضاً على لعب أوراق أخرى من 8 آذار.
لكنّ القريبين من الحريري يبدون استياءً من هذا الكلام ويضعونه في إطار المحاولات للدسّ والتشويش على العلاقة المتينة جداً بين الحريري وأركان العهد السعودي جميعاً.
ويجزمون أنْ لا وجود لوجهات نظر متعدِّدة ولا لمعتدلين ومتشدِّدين في الرياض كما يروِّج البعض. ويؤكدون أنّ نظرة الرياض إلى الحريري ودوره وموقعه داخل المعادلة السنّية خصوصاً، واللبنانية عموماً، ثابتة ولم تتغيَّر.
ويجزم هؤلاء أنّ الحريري بمبادرته لم يوجّه رسالة إلى أحد، وأنْ لا علاقة إطلاقاً للمبادرة بأيّ حيثيات سياسية سوى الرغبة في الخروج من حال الشغور الرئاسي وتحريك عجلة المؤسسات.
وفي الانتظار، يقول المتابعون إنّ الحريري ينتظر كلمة السرّ السعودية الحاسمة، على أرفع مستوى، ليبني عليها توجُّهاته في المرحلة المقبلة. ولذلك هو تريَّث حتى الآن في إعلان ترشيح فرنجية، إضافة إلى رغبته المؤكدة بمراعاة الحلفاء المسيحيين، وفي مقدّمهم الدكتور سمير جعجع.
فرئيس «القوات» يتمتع بمستوى من العلاقة مع أركانٍ في العهد السعودي باتت ربما تتجاوز بمتانتها علاقة الحريري بهم.
وفي تقدير جعجع أن السعوديين لن يخطئوا بتبنّي فرنجية، المرشح المسيحي الأكثر صفاء في العلاقة مع الأسد، لأنّ لذلك مترتباتٍ عدّة على التوازن القائم في لبنان بين المحورَين الإيراني والسعودي. والكلام الذي أطلقه السفير علي عواض عسيري قبل أيام، عن «الإجماع» المسيحي على المرشح له دلالاته.
ولذلك، لا يريد جعجع التركيز على شخصية فرنجية التي لا غبارَ عليها كواحدٍ من أقطاب بكركي الأربعة، بل يراهن على أنّ السعودية ستطلب وقفَ المبادرة عندما تكتشف أنّ برنامج فرنجية لا يخرج من أَسْر محور الأسد- طهران: سلاح «حزب الله»، التورّط في سوريا، المحكمة الدولية، تحالفات لبنان الإقليمية…
وعندئذٍ، سيكون سهلاً سؤال السعوديين: هل تقبلون بالتخلّي عن لبنان وحلفائكم فيه لمصلحة المحور الآخر؟ وما هو الثمن الذي ستقبضونه مقابل ذلك، وأين، علماً أنّ الأثمان الموعودة في سوريا تبقى إفتراضية، لأنْ لا شيء مضموناً هناك، والتسوية مؤجَّلة إلى إشعار آخر.
المفارقة أنّ جعجع يستعدّ لزيارة السعودية وهو يطمح إلى خربطة لعبةٍ يطرحها حليفه الحريري، الذي لطالما كان الوكيل المعتمد للسعودية في لبنان. وعلى رغم إعلان النائب أنطوان زهرا أنْ لا لقاء بين جعجع والحريري على «الأجندة»، فإنّ من غير المستبعد التقاء الرجلين في السعودية، بعد عودة الحريري إليها من باريس.
وثمّة همس في بعض الأوساط مفاده أنّ الحريري نفسه ربما يأمل أن تطلب منه السعودية تجميد المبادرة، مراعاة لجعجع. وعندئذٍ، سيكون الباب مفتوحاً للحريري كي يأخذ ويعطي مع السعوديين ويقطف الأثمان.
وفي أيّ حال، قد تأتي عرقلة المبادرة من جانب الخصوم أيضاً إذا لم يكن «حزب الله» راضياً عنها. فقد لا يرغب «الحزب» في إغضاب عون بالتخلّي عنه لمصلحة فرنجية. وإذا كان الحريري وجنبلاط يريدان «قانون الستين» للانتخابات، فهذا يعني إستعادة نموذج الرئيس إميل لحود الذي كان مكبَّلاً بأكثرية من الخصوم.
إذاً، إنه الانتظار. وليس غريباً حديث وزير الداخلية نهاد المشنوق عن أسابيع للبتّ في المسائل الشائكة… إذا كان العلاج ممكناً. وللتذكير، إنّ قانون الانتخاب جزءٌ أساسي من «الصفقة الشاملة». وهو يقبع منذ سنوات في الأدراج لأنّ كلّ طرفٍ سياسي وطائفي ومذهبي ومناطقي يريده على قياسه. وحتى الآن، لا يبدو سهلاً للخياط أن يفصِّل بدلةً «وان سايز».