لن تكون هناك مسائل مهمّة للبحث بين الرئيس سعد الحريري والدكتور سمير جعجع عندما يلتقيان. فكلّ منهما «مدركٌ طريقه وواثقٌ مِن نفسه». لذلك، قد يقرّران الالتقاء قبل ذكرى 14 آذار أو بعدها، أو بعد تشكيل اللوائح. فأيّ منهما لا يريد أن يُظهِر أنّه يَستعجل عقدَ اللقاء بأيّ ثمن…
ربّما يكون من الأخطاء التي يقع فيها الحلفاء-السابقون- في 14 آذار أن يراهنَ كلّ منهم على أنه مدعوم أكثر من سواه في المملكة العربية السعودية. فهذه المراهنة، على طريقة «بَيّي أقوى مِن بَيَّك» لا تُقدِّم ولا تؤخِّر في استعادة قوّة 14 آذار… فيما الوقت المتبقّي للانتخابات الحاسمة بضعة أسابيع!
يَعتقد جعجع وسائر الـ 14 آذاريين الرافضين نهجَ التنازل لـ«حزب الله»، أنّ زيارة الحريري الأخيرة للرياض ستكون فاعليتها في تغيير نهجِه أكبرَ مِن زيارة «الاستقالة» الشهيرة.
فصحيح أنّ الزيارة التشرينية تمّت تحت تأثير ضغوط سعودية هائلة، إلّا أنّ مفاعيلها بقيَت محدودة، بل زادت الحريري التصاقاً بحلفاء «حزب الله»، ولا سيّما منهم «التيار الوطني الحرّ»، والنائب وليد جنبلاط. وبعد الزيارة، لم يتورَّع الحريري عن توجيه سهام انتقاداته نحو الذين «نقلوا الحكي» ضده في الخارج.
أمّا الزيارة الأخيرة، فكان الحريري مرتاحاً تماماً فيها، سواء في اللقاءات مع الملك السعودي أو مع ولي العهد. فالموفد نزار العلولا مهَّد للزيارة بلقاءات في بيروت. ويؤكّد المطّلعون أنّ إعلان الحريري عن أجواء إيجابية جداً ميَّزت الزيارة يعبِّر فعلاً عن الواقع. فالسعوديون كانوا قد تفهّموا، منذ أزمة تشرين الثاني، حاجة الحريري إلى بعض الهوامش التي تفرضها خصوصية الوضع اللبناني. لكنّهم جاؤوا عشية الانتخابات ليحاولوا، بمقدار ما يستطيعون، الحدَّ من اندفاعة «حزب الله» وحلفائه إلى الاستئثار بغالبية مقاعد المجلس النيابي المقبل.
بالتأكيد سيحصل «الحزب» بالشراكة مع الرئيس نبيه بري على الغالبية الساحقة من المقاعد الشيعية. لكنّ وزنه الراجح في المجلس سيكون مرتكزاً في شكلٍ أساسي إلى عددِ المقاعد التي سيأخذها من الطوائف الأخرى، المسيحية والسنّية والدرزية. فلهذه المقاعد أهميتُها في منحِ «الحزب» تغطيةً وطنية شاملة.
وفيما تقليصُ عدد المقاعد الشيعية التي يفوز بها تحالف حركة «أمل» و«الحزب»، في أيار 2018، يبدو محاولةً ميؤوساً منها، فإنّ خصوم «الحزب» منشغلون في العثور على الوصفة السحرية التي تُقلّص حجمَ المقاعد التي سيَحصدها «الحزب» في الطوائف الأخرى، وأبرزُها «التيار الوطني الحرّ». وهذا هو هدف الدينامية السعودية الناشطة في هذه المرحلة.
لكنّ الدينامية السعودية يقرأها الحريري وجعجع كلٌّ من زاوية مختلفة، أو يريد كلّ منهما أن تصبَّ في الاتّجاه الذي يناسبه:
الحريري يعتقد أنه باستعادة العلاقة الوطيدة مع السعوديين واستعادة رصيده لديهم على مختلف المستويات بات قادراً على إقناعهم أكثرَ بواقعية انفتاحه وبالنهج الذي يَسلكه.
وأمّا جعجع فيعتقد أنّ السعوديين جاؤوا إلى لبنان عشيّة الانتخابات ليضعوا النقاط على الحروف ويعيدوا تموضُع الحريري في الانتخابات ضِمن صفّ 14 آذار.
عملياً، يقف السعوديون اليوم في منتصف المسافة بين جعجع والحريري. ففي الأساس هم أقرب إلى جعجع برغبته في مواجهة «حزب الله». لكنّ ذلك لا يناقض نظرتهم المرحلية للتوازنات على الساحة الداخلية.
فبَعد أزمة الاستقالة الحريرية، بات السعوديون يتفهّمون ضرورات الحريري في تحالفِه مع رئيس الجمهورية و«التيار الوطني الحرّ»، لأنه يَضمن فوز «المستقبل» في بعض الدوائر، وبقاء الحريري رئيساً للحكومة بعد الانتخابات. ولا مصلحة للسعودية في خسارة الحريري للسراي الحكومي في هذه المرحلة، لأنّ البدائل المطروحة قد لا تكون من صفّ حلفائهم.
إذاً، يَطلب السعوديون من الحريري أن يضع التحالف مع جعجع وسائر قوى 14 آذار أولوية انتخابية، وأن يرفض التحالف نهائياً مع «حزب الله»، وأن يقلّصَ تحالفاته مع القوى الحليفة لـ«حزب الله» إلى الحدّ الأدنى.
وهذا ما التزَم به الحريري فعلاً. وكلّ لوائح «المستقبل» ستتشكّل انطلاقاً من هذا المعيار، أي «على القطعة»، بحيث يمرّر القطوع بأفضل المكاسب وأقلّ الأضرار. لكنّ لعبة الشطرنج هذه صعبة واقعياً في ظلّ التداخل بين القوى كافة، وقانون معقَّد يَجري اختبارُه للمرّة الأولى، وقد يُفاجَأ كثيرون بنتائجه.
يقف الحريري وجعجع وجهاً لوجه عشيّة الانتخابات، ويحاول كلّ منهما تحميلَ المسؤولية للآخر مسبَقاً عن خسارةٍ محتومة ستصيب فريق 14 آذار في الانتخابات. ولكن، هل يمكن احتساب المسؤوليات والخسائر بناءً على التحالفات الانتخابية وحدها؟
فماذا عن «التسوية الأُمّ»، أو الصفقة، التي عَقدها الحريري مع النائب سليمان فرنجية أوّلاً، ثم مع عون، والتي استدرَجت جعجع إليها لاحقاً؟ وماذا عن مسار «التلاحم» بين الحريري ووزرائه والوزير جبران باسيل ووزرائه في مجلس الوزراء، والذي يتحدَّى جميع الآخرين من 14 آذار ومن 8 آذار؟
اليوم، جعجع يشدّ الحريري في اتجاهه، لكنّ الحريري مشدود إلى عون. البعض يقول إنّ الرجلين واقعان اليوم بين خيارين: «المصالحة أوّلاً» أم «المصلحة أولاً»؟ وفي أيّ مِن الحالين، ستهبّ عواصف الربيع الانتخابي وتجتاح كلَّ المصالحات القديمة وترسم المصالح الجديدة.