حين استيقظ اللبنانيون على خبر سقوط المسيّرتين الاسرائيليتين في عمق الضاحية الجنوبية في عملية أحاطها الغموض وعقدٌ من الألغاز، بدا رئيس الحكومة سعد الحريري كمن يقف بين حدّين: إعلان الانهيار المالي والاقتصادي الذي يقترب بخطوات واثقة من المالية العامة، وعودة لبنان إلى فكّي كماشة الاصطفافات الاقليمية مع اندلاعها من جديد من قلب الضاحية.
يعرف رئيس “تيار المستقبل” جيداً كما غيره من مكوّنات الطبقة الحاكمة وتلك المعارضة، أنّ “حزب الله” ما كان ليرضى بكسر قواعد الاشتباك مع اسرائيل من دون أن يبادر الى رد فعل يعيد التوازن إلى المعادلة المكرّسة بقوة السلاح منذ العام 2006. “ردّ الإجر” في العمق الإسرائيلي محسوم، لكن السؤال كان: متى وكيف؟
إذاً، المسألة أبعد من خرق للسيادة اللبنانية من خلال عملية غامضة في أهدافها ولو أنّ بقعة مفاعيلها بدت محصورة. هي مسألة قواعد مثبّتة في الميدان وعلى طاولة الحسابات الكبرى، حرص “حزب الله” على صيانتها منذ الانسحاب الاسرائيلي في العام 2000 وبعده حرب تموز في العام 2006، حتى لو أخذت الحرب السورية الكثير من مجهوده وتركيزه وامتداده العسكري. لكن الأساس يبقى على الحدود الجنوبية.
ولهذا، كانت ضربة “حزب الله” منتظرة، عززتها اطلالة الأمين العام السيد حسن نصرالله الذي توعّد الاسرائيليين برد مباشر من لبنان. وهذا ما حصل. انتهت العملية التي تمثّلت باستهداف مدرّعة اسرائيلية في مستوطنة أفيفيم بصاروخين من نوع “كورنيت”، مقابل ردّ اسرائيلي لم يتخط حدود اطلاق صواريخ حارقة على بلدة مارون الراس، وفق السيناريو المتوقع من الجانبين: ردّ موضعي يحول دون تدحرج العمليتين إلى حرب واسعة لا يريدها الطرفان.
تنفّس الحريري الصعداء، بعدما نجح في الحفاظ على رباطة “جأشه الاعتراضي”. لا بل ذهب الرجل أبعد من ذلك: تناغم غير مسبوق بينه وبين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في مواجهة الاعتداء الإسرائيلي. بدا وكأنّه واحد من أركان قيادة “محور الصمود” في وجه العدو. لا غبار على موقفه لدرجة نيله شهادات تقدير من معظم وزراء قوى الثامن من آذار الذين هنأوه على موقفه. حتى “حزب الله” يقول في العلن ما يتمّ تداوله في السرّ: موقف رئيس الحكومة ممتاز.
في المقابل كان رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة يرسم بحذر ودقة، حدود التمايز بينه وبين “زعيم” فريقه السياسي، دافعاً باتجاه تعزيز موقف الدولة. فطالب مثلاً الدولة اللبنانية “بأن تقوم بالتحقيقات الكاملة في الضاحية لكشف ملابسات العدوان الاسرائيلي الاخير على لبنان، كي يُصار إلى توضيح الموقف اللبناني من خلال تحقيقات تجريها مؤسسات وأجهزة الدولة اللبنانية”. واعتبر يوم الاثنين الماضي أنّ “ما وقع على الحدود مع إسرائيل، جرى في تغييب كامل للدولة اللبنانية”، محذراً من “انفراد حزب الله باتخاذ المواقف ومحاولة توريط البلاد”.
ومع ذلك، بدا الشارع “المستقبلي” متقبّلاً كلا الخطابين، على اختلافهما، غير متأفف من انسيابية زعيمه تجاه تلقّف الأحداث الحاصلة على الحدود حتى لو بدت الدولة كلها تحت إمرة “حزب الله”.
مدرستان في سلوك الحريري
يقول عارفو رئيس الحكومة إنّ هناك مدرستيّ تفسير لسلوك الحريري:
تفيد الأولى أنّ رئيس “تيار المستقبل” يتصرف كمن يتعلّم السباحة وحيداً في بحر من العواصف. لا إشارات جدية على مظلة اقليمية قادرة على حمايته ولا دعم دولياً في امكانه التعويض عن خيار الخصومة مع الداخل. صحيح أنّ زيارته الأخيرة إلى واشنطن كانت مثمرة من خلال اللقاءات التي عقدها، لكن الرجل يعرف جيدّاً أنّه لا يستند إلى جدار دعم خارجي يقيه شرّ الخصومات الداخلية.
ولهذا تراه يستثمر على نحو شديد البراغماتية، في الواقع اللبناني بكل تعقيداته. على أرض الواقع، رئيس الجمهورية هو العماد عون، والأخير ملتصق بخيار “حزب الله” الاستراتيجي، وبالتالي من المنطقي أن يتبنى ما يتبناه رأس الدولة بلا مواربة، خصوصاً وأن الحريري شديد الحرص على صيانة علاقته بالرئيس عون وحمايتها.
أما المدرسة الثانية فتفيد أنّ الحريري سمع كلاماً قاسياً من المسؤولين الأميركيين الذين التقاهم في واشنطن يؤكد بما لا يقبل الشك أنّ الادارة الأميركية لن تتراجع في اندفاعتها ضدّ “حزب الله” وما إدراج مصرف “جمّال” على لائحة العقوبات إلا محطة جديدة من مسار التطويق المالي ضدّ البيئة الحاضنة لـ”حزب الله”. علماً أنّ الحريري، كما يؤكد عارفوه، شرح مطولاً للمسؤولين الأميركيين أنّ عقوبات من هذا النوع تضرّ بالاقتصاد اللبناني لا بـ “حزب الله”.
وعليه، هو يعرف جيداً أنّ الهجمة الأميركية مرشّحة للتصعيد، وما موقفه الأخير من أحداث الضاحية وما تلاها، إلا اثبات جديد أمام شركائه المحليين يؤكد أنّه لا حول له ولا قوة، وأنّه غير معني بالرياح التي قد تهب من العاصمة الأميركية. باختصار، هو نوع من تبرئة ذمة من أي ضغط اضافي قد يزيد الخناق على “حزب الله”.
يتصرف الحريري، وفق عارفيه، كمن يسير في حقل من الألغام في لحظة اشتباك اقليمية قد لا توفّر أحداً، ولذا يحرص على عدم الانخراط في معارك الآخرين. ولهذا يعتبرون أنّ تمايز السنيورة لا يستهدف أبداً الحريري وإنما هو من باب تكريس نوع من التوازن في الموقف السنيّ، ومنعاً لانزلاق رئيس الحكومة أكثر في وحول الواقعية السياسية.
ولعل توخي السنيورة الحذر في ترتيب تعابيره بشكل لا يبدو استفزازياً، هو الذي يحول دون تسرّب أي انزعاج قد يكون سبّبه للحريري الذي لا يعاني في هذه “اللحظة الميتة” انتخابياً من عقدة الشعبوية، خصوصاً وأنّ الشارع السني بدا مطمئناً لموقف رئيس “تيار المستقبل” الذي سلك درب تطويق التوتر الحدودي الذي وقع والحؤول دون انفجاره أكثر.