علَّق قطب في 14 آذار (السابقة) على صورة الصفّ الأول من مهرجان «البيال» قائلاً: كان «حُرّاس الذكرى» حتى الأمس القريب من 14 آذار. وأمّا اليوم فبات الحُرّاس من 8 آذار. وبعد جلوس الوزير سليم جريصاتي، محامي المتهمين باغتيال الرئيس رفيق الحريري، إلى يمين الرئيس سعد الحريري في مهرجان 2018، ما هو المبرِّر المنطقي – بعيداً من أي حساسية- لعدم مشاركة «حزب الله» في مهرجان 2019؟
هناك مآخذ متنامية على الحريري في داخل منظومة حلفائه السابقين. ولكن، في معزل عن التعليقات الجارفة، ذات الخلفيات السياسية، التي تتهم الحريري بـ«الرضوخ» لنهج «حزب الله»، هناك ملاحظات موضوعية يبديها المحللون من مسافات حيادية، وهي تعطي الحريري مبرّرات كما تُحمِّله مسؤوليات، لكنها تعطي آخرين مبرّرات وتُحمِّلهم مسؤوليات.
إذا كانت واشنطن لا ترغب في فتح مواجهة مع «حزب الله»، في اعتباره مكوِّناً أساسياً للسلطة في لبنان، كما قال وزير الخارجية ريكس تيلرسون عشيّة زيارته للبنان.
فمن البديهي أن يعرف أركان الحكم والسياسة حدودهم في هذا الملف. فمن المؤكد أن لا مناخ دولياً يضغط على الحريري – أو سواه – لكي يعلن الطلاق مع «الحزب» في الحكومة. فالحدود المطلوبة هي فقط عدم سيطرة «حزب الله» على السلطة، سياسياً وعسكرياً.
لذلك، أرسل الحريري من «البيال» إشارات مُحدَّدة ومدروسة جيّداً في مسألة العلاقة مع «حزب الله»:
1 – لن نتحالف مع «الحزب» في الانتخابات النيابية. أي نحن نتعاطى معه في السلطة كـ«أمر واقع» سياسي، ولكننا سنقاتله سياسياً لإضعافه بمقدار ما نستطيع، وسنخوض الانتخابات ضده لهذه الغاية. فالشراكة الواقعية التي يوافق عليها الحريري، داخل الحكومة، والتي اعترف بها تيلرسون، لا تعني الشراكة في النهج السياسي.
2 – بتأكيد الحريري خوضه الانتخابات ضد «حزب الله»، هو»يُبرّئ» نفسه مسبقاً من أي مسؤولية عن نتائجها. فالحريري تبلَّغ بوسائل مختلفة رفض الولايات المتحدة الاميركية سيطرة «الحزب» على السلطة في لبنان.
لكنه يدرك أنّ الانتخابات، وفق القانون الساري المفعول، ستأتي بغالبية محسومة لـ«الحزب» وحلفائه، ما يؤدي إلى سيطرتهم سياسياً على المؤسسات. ولذلك، يغسل الحريري يديه، مسبقاً، من أي مسؤولية عن النتائج المتوقعة.
3 – إمعاناً في التنصّل من المسؤولية، تعمَّد الحريري المجاهرة بمقولة إنّ «المستقبل» سيصاب بخسائر لأنه يفتقر إلى المال الكافي لخوض المعركة. وهذه المقولة صحيحة «نسبياً» بمقدار ما قانون الانتخاب «نسبي». فالحريري لم يخسر ثروته إلى هذا الحدّ، لكنه يبعث برسائل إلى الذين يعنيهم الأمر في هذا الشأن… إذا كان يهمّهم إضعاف «حزب الله»، وإلّا فلا يلومَنَّه أحد.
4 – إنطلاقاً من ذلك، أصرّ الحريري على أنه سيخوض الانتخابات «زَيّ ما هيّي»، في موعدها. وهو في هذا الإصرار يبعث برسالة إلى الجميع مفادها أنه ليس متخاذلاً ولا مهمِلاً واجباته الدستورية.
ولكنه أيضاً يضع القوى الخائفة من نتائج الانتخابات أمام خيارات معينة، عليها أن تتحمّل هي مسؤوليتها، ومنها تأجيل هذه الانتخابات حتى توفير الظروف الملائمة في شكل أكثر توازناً.
5 – حاول الحريري توجيه رسائل إلى جمهوره والسُنَّة عموماً تؤكد استمراره في «الخط القديم»، المقاتل لـ»حزب الله»، ليشدّ العصب. لكن «روح المهرجان» كانت لحلفاء «الحزب».
وأمعَن الحريري في تكريس هذا المناخ بمهاجمته قوى من 14 آذار، لم يسمِّها، قال إنها «كتبت التقارير» ضده، وحرّضت عليه في الخارج. وبات واضحاً أنه تعاطى سلباً مع مجمل حالة 14 آذار في المهرجان شكلاً ومضموناً، وكما لم يفعل في أي مهرجان سابق.
6 – كل هذه الرسائل جرى عرضها في حضور المعنيين من الطواقم الديبلوماسية العربية، أي أنها فرصة جديدة لتوجيه كل رسائل التطمين والإيضاح هذه، لتبديد الالتباسات.
إذاً، ما فعله الحريري في المهرجان هو استمرار لنهج التسوية التي أبرَمها في خريف 2016، والتي جاءت به وبالعماد ميشال عون إلى السلطة.
وفي الخلاصة، هناك ازدواجية يعتمدها الحريري في التعاطي مع مسألة «حزب الله»: واقعياً، هو ينخرط تماماً في المسار الذي يريده «الحزب» وحلفاؤه، وهو ليس مستعداً للتخلّي عنه ولو خسر كل حلفائه السياسيين في 14 آذار، السُنَّة والمسيحيين. لكنه، في الشكل، يهاجم «حزب الله» ويرفض محالفته في الانتخابات والانصياع لخياراته.
سبق الحريري إلى هذا السلوك النائب وليد جنبلاط الذي خرج من 14 آذار و»عَلِق» في الوسط بينها وبين 8 آذار. فهو اختار تنظيم العلاقة مع «الحزب» بما يضمن أمنه وأمن الجبل والدروز، لكنه بقي محافظاً على العداء لنظام الرئيس بشّار الأسد و»محور الممانعة»، وترك ملفَّي سلاح «حزب الله» وانخراطه في الساحات الإقليمية «إلى موعد آخر».
هل يُلام الحريري، وقَبْله جنبلاط، على الانحراف عن «خط» 14 آذار؟
إنّ تبرير خروج القطبين السُنّي والدرزي عن «الخطّ»، بالتزام الواقعية السياسية والدخول في قلب الموجة حتى تنحسر، يؤدي عملياً إلى تبرير خروج عون نفسه – باكراً جداً- وهو الذي كان المحرّك الأساسي لولادة القرار الدولي 1559، وكان تياره أحد أبرز المكوِّنات التي صنعت ساحة 14 آذار 2005.
في أي حال، هذه الواقعية أصابت كل أركان 14 آذار الفاعلين، بلا استثناء، في مراحل وظروف وفي نِسَب معينة. فهي أيضاً أجبرت الدكتور سمير جعجع على السير في نهج التسوية إيّاها في 2016، عندما أعلن تأييد عون، وإن فعل ذلك مضطراً بعدما أقفل الحريري في وجهه كل الخيارات الأخرى.
هناك كثير من المبررات في جعبة كل ركن في 14 آذار. والقاسم المشترك ما بين هؤلاء هو «أنّ التنازل هدفُه حماية الاستقرار والسلم الأهلي». والجميع يقول «إنّ هذا التنازل ظرفي وسيزول بتغيُّر الظروف الضاغطة، أي عملياً بانتهاء الحروب الإقليمية وتقلّص نفوذ إيران في دول الشرق الأوسط، ومنها لبنان».
في دراسة كل تبرير، هناك بعضٌ من المنطق وكثير من اللامنطق. وقد يأتي يوم يُتاح فيه للباحثين أن يَفتحوا «الصندوق الأسوَد» ليكشفوا ما جرى فعلاً لـ 14 آذار، وأدى إلى سقوطها!
ولكن، حتى ذلك الوقت، كل شيء على حاله. والمراهنة على الرضوخ لنفوذ «حزب الله»، واقعياً ومرحلياً، إلى أن تنتهي الحروب الإقليمية وينحسر نفوذ إيران، تعني شراء سَمَكٍ في البحر.
فقبل اندلاع الحروب الأهلية العربية كان «حزب الله» يبرّر استمرار سلاحه ونفوذه بعناوين كثيرة، وكان موجوداً بقوة النفوذ الذي مارسه السوريون في لبنان، والذي كان يتعاطى معه كثير من الـ14 آذاريين بروح الاستثمار السياسي وغير السياسي، لا أكثر ولا أقلّ… وبعضهم قد لا يبدِّل تبديلا.