يراقب النائب نهاد المشنوق التطورات “الثورية” التي تشهدها البلاد، بكثير من الخفر، والإعجاب في الوقت نفسه. يمعن النظر في ما تكتنفه هذه “الفورة” العارمة وما قد تفرزه من متغيّرات سياسية ستطبع تباعاً المشهد الداخلي. في المقابل، يحاذر الاقتراب كثيراً من المربعات الحارقة. ليس لشيء، بل لاقتناعه بأنّ ما يجري على الأرض، استثنائي في طبيعته وظروفه، وبالتالي لهذه المشهدية “رموزها”، ولا بدّ أن تُعطى الانتفاضة مداها، قبل أن تهدأ الأمور وينطلق بالبوح السياسي.
منذ خروجه من مبنى الصنائع، يواظب المشنوق على اعتماد سياسة الاقتضاب في الكلام. يراكم ويسجّل الملاحظات والنقاط، ويترقّب. وبعد 17 تشرين الأول، كما قبله، لم يخالف نمطه في الإدلاء بما قلّ ودلّ، بانتظار انقشاع الصورة، والرؤية.
هكذا، اكتفى بعد ثلاثة أيام من وقوع “الزلزال” الشعبي، بدفع رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط للتماهي مع “القوات” في خطوتها “الانفصالية” عن الحكومة، ليعود بعد ثلاثة أيام أخرى إلى الثناء على موقف بكركي المتضامن مع الانتفاضة الشعبية والداعي الى احتضانها. فيما دفعته الشائعات التي طاولته إلى تسطير “البيان رقم 3” لينفي فيه قيامه بزيارة القصر الجمهوري سرّاً.
الملفت في ردّ المشنوق، هو إقدامه وعلى نحو جليّ، على توجيه أصابع الاتهام إلى “لصيقين ببيت الوسط” يقفون خلف الحملة التي يتعرّض لها، والتي تجلت من خلال فبركة أخبار تمّ تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيق “واتساب”.
أما في اليوم التاسع عشر للانتفاضة، وفي خضم المعركة المكتومة الصوت، المحتدمة بين بعبدا وبيت الوسط على خلفية الصراع حول من يسبق “دجاجة التكليف أم بيضة التأليف” على نحو أطاح بـ”اللياقة السياسية”، دخل المشنوق على الخط السياسي من باب نقاط ثلاث:
– الأولى، إنحيازه الكامل “للثورة لأنها الأكثر نزاهة والأشرف والأكثر تعبيراً عن حاجات الناس وأوجاعها، منذ قيام دولة لبنان”، مع اعترافه بأنّ الشعار الأول للثورة “كلن يعني كلن” لا يستثنيه.
– الثانية، تأكيده أنّ تأجيل الاستشارات النيابية هو “تجاوز للدستور ومحاولة الاستيلاء على صلاحيات الرئاسة الثالثة، بالتشاور مع الكتل السياسية بعد التكليف”. وهو موقف يسجّل للرجل في خانة “صيانة” موقع الرئاسة الثالثة رغم المسافة الشاسعة التي صارت تبعد بينه وبين بيت الوسط.
– الثالثة، إشارته إلى “الرغبة المستمرّة في إعلان القوّة”، لافتاً إلى أنّ هذا “العنصر المفتعل لم يعد متوافراً لأحد رغم كلّ الاستعراضات”. والكلام عن الاستعراضات لا يعفي أحداً، لا من “التيار الوطني الحر” ولا غيره من التيارات.
وبعد لحظات من انتشار بيان وزير الداخلية السابق، كانت الهواتف الذكية تتلقى مقطع فيديو يوّثق بعض مواقف المشنوق إبان توليه “الداخلية”. لا يهدف طبعاً الى تنشيط ذاكرة محبيه، وإنما إلى تحريض معارضيه، كونه يقتطع من مسيرة الوزير المشاكس، المحطات التي يصوّرها “مستقبليون” بمثابة “سقطات سياسية” وقع فيها المشنوق عن سابق تصوّر تصميم، تحت شعار أنّه “ينيشن” على السراي الحكومي.
في المقابل، هناك من يرى أن هذا العمل الممنهج يهدف إلى “حرف” قناعات الجمهور وإغفال الواقع أنّ المشنوق كان السبّاق في مواجهة رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، علناً وصراحةً، منذ العام 2017، من خلال تحذيره من أنّ تمادي الأخير في سياسة الاعتداء على الشراكة الوطنية سيؤدي إلى اضطراب كبير في السلم الأهلي، وهو ما حصل بالفعل.
الغريب، أنّ الرجل حاذر في الأيام الأخيرة الاقدام على أي خطوة قد تفسّر على أنّها محاولة “خطب ودّ” الرئاسة الثالثة، على خلاف مثلاً الزيارتين العلنيتين اللتين قام بها كل من النائب فؤاد المخزومي والنائب السابق محمد الصفدي إلى بعبدا، والتي لم تواجه بأي سهام اعتراضية من جانب “المستقبل” وقيادييه…
في المقابل، يتلقى المشنوق سهام “ذوي القربى السياسية” على نحو مثير للاستغراب، كما يقول المطلعون على موقفه. ليست المرة الأولى التي يواجه فيها الرجل حملة شعواء، ثبُت وفق عارفيه، أنّها ممنهجة ومنظّمة، لكنّها قد تكون المرة الأولى التي لا يبرئ فيها رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري محيطه من “فعلتها”.
لم يتمكن المشنوق من فكّ لغز تلك الحساسية الزائدة، خصوصاً وأنّه لا يتردد في القول أمام من يلتقيهم إنّ الزمن زمن ثورة، لا مكان فيها للوجوه المسيّسة، وبالتالي لن تحمله اندفاعته على التفكير أبداً في ركوب موجة الحراك، سواء للعودة إلى مقاعد الحكومة، أو لطرح نفسه بديلاً عن الحريري، وهو الذي سبق له أن أعلنها مراراً بالفم الملآن: رئاسة الحكومة تمرّ ببيت الوسط.
وفق المطلعين على موقف النائب البيروتي، ثمة دافع واحد قد يقود تلك الحملة وهو حاجة محيط الحريري إلى “إثبات” تخلّي المشنوق عن “الحريرية الوطنية”، متعمّدين تجاهل ما يثبت عكس ذلك، وهو كثير، وذلك، في لحظة اختبار صعبة تفرض على الحريري السير في حقل ألغام شركائه السياسيين من جهة، والحراك الشعبي من جهة أخرى. ولذا كان التصويب على وزير الداخلية السابق.