«قررت يا وطني اغتيالك بالسفر قلبي عليك يا وطني… وأنت تنام على حجر». (نزار قباني) «عندما ينتزع الراعي عنزة من براثن ذئب تعتبره العنزة بطلاً، أما الذئب فيعتبره ديكتاتوراً». (ابراهام لنكولن)
فلسفة العدمية قد تكون أكثر أنواع الفلسفة واقعية، وهي بالمختصر تعني بأن كل الحراك والفكر الإنسانيين مجرد هباء لأن الفناء آتٍ لا محالة. لكن بعض الفلاسفة الذين يعترفون بمبدأ العدمية يحثون البشر على العمل والسعي لإعطاء الوجود معنى بدل الاستسلام إلى الإحباط الوجودي.
ما لنا وكل ذلك الجدل في الفلسفة، لكن ما يمكن ملاحظته بوضوح تام في لبنان هو أن طريقة مسار الأمور في الحكم والإدارة والأمن والاجتماع والاقتصاد أوصلت معظم الناس إلى الاستسلام للعدمية.
عدا بعض الومضات التي سجلها الحراك المدني في الأشهر الماضية، والتي أيقظت الآمال بإمكانية فعل شيء في وسط الجمود، فإن القوى الأساسية في البلد بقيت تدور في حلقة مفرغة من العدمية المطلقة والاستسلام «لقوى» تتعدى القدرات الإنسانية!
حتى إن هذا الحراك المدني عاد ودخل في نطاق العدمية من خلال العنف والرفض المطلق لكل الحلول.
في ظل كل تلك الوقائع أتت المبادرة الأخيرة للرئيس سعد الحريري لتحرك المياه الراكدة وتعيد الجدل إلى الساحة السياسية في لبنان في سبيل البحث عن حلول مفيدة.
لم يكن خافياً على الرئيس الحريري كم من اللغط والجدل والهجاء والمديح سوف تستدرجها مبادرته الأخيرة حول الملف الرئاسي. هو يعلم أن الهجاء سيأتي من معظم الأصدقاء والحلفاء، وأن التهكم والتشكيك سيأتيان من الأخصام، وأنه سيعبر الدرب الوعر الذي قد لا يؤدي إلى شيء بين موجات من الهجاء والتشكيك، وقد يعود مثخناً بالجراح، ولكنه رغم ذلك فضل الذهاب في طرح المبادرة وتحمل تبعات نجاحها أو فشلها.
لا شك أن سعد الحريري يقف اليوم أمام ركام الجمهورية اللبنانية كما وقف والده من قبله أمام ركام بيروت منذ ربع قرن، وفي الحالتين كان من الممكن التراجع عن المبادرة، ولو تراجع رفيق الحريري لكان بقي الركام وربما نجا هو من الاغتيال. ولو استودع اللبنانيين بالفعل يوم اعتذر عن تأليف حكومة اميل لحود بعد التمديد، وبقي في سردينيا لعطلة طويلة، فلربما لم تكن لتطاله نيران الحقد في الرابع عشر من شباط!
وكان بإمكان سعد الحريري الاستقالة من المبادرة المفروضة سنة وتجنب اللقاء الموجع مع أحد قتلة والده، والذي لا يزال حتى اليوم يحفر في وجدانه، لكنه قبل المبادرة على أمل أن تؤدي إلى الاستقرار الذي لم يدم إلا لسنتين عندما قررت قيادة الممانعة الانقلاب على السين- سين ورفع علم الحرس الثوري في بيروت معلنة اكتمال عقد الإمبراطورية.
وهنا أيضاً كان بإمكان سعد الحريري الاستقالة والاعتذار عن السعي غير المجدي لإنتاج حلول، والانسحاب من المعمعة بأقل ما يمكن من الخسائر.
ومع ذلك فقد بقي يجرب مبادرة تلو أخرى، حتى ولو كانت حظوظ نجاحها ضئيلة، ولكنها في كل مرة كانت تحفر ثغرة في جدار العدمية، وتعيد الحراك إلى مستنقع الركود والعقم السياسي.
في هذا الإطار أتت المبادرة الأخيرة في طرح اسم جديد من الرباعي الماروني الذي يحمل «صفة تمثيلية»، في سلة متكاملة لكسر الفراغ القاتل في الحكم. لم يخترع سعد الحريري اسماً، ولم يكن هدفه كسر إرادة أحد، بل اختار الاجتهاد من ضمن سلة وضعها قادة موارنة تحت رعاية البطريركية، بعد أن فشلت مبادرة ترشيح سمير جعجع، ومن بعدها التفاهم مع ميشال عون، وفشل التسوية على مرشح «من دون طعم أو لون ومن دون قوة تمثيلية«.
لقد وصلنا إلى واقع التسليم بعدمية إمكان انتخاب رئيس، وبعدنا تواطأ على الفراغ حتى لا يملأ «الغير» سدة الرئاسة، وبدأت مؤسسات الدولة تنهار لدرجة انعدام القدرة على حل مسألة بديهية مثل ملف النفايات.
أما عن الوقائع الإقليمية فكلها تشير إلى أن مرجعية آذار أصبحت خارج إرادة بشار الأسد، وأن مشروع ولاية الفقيه الإقليمي في انحسار جغرافي واضح. هذا يعني أن التسويات والحلول لن تكون بيد هؤلاء، بل في ما سينتجه الحراك العنيف القائم بين القوى الكبرى، بالوكالة والأصالة.
لذلك فقد كان طرح سعد الحريري لاستباق كل ذلك، والتعامل مع الحلول الإقليمية متى أتت على أساس وجود دولة ومؤسسات بدل الوضع المشتت القائم.
بالمحصلة فلا أظن أن أحداً منا مهما بلغت مواقفه من تصعيد أو تضحياته من مدى يمكنه أن يزايد على سعد الحريري، ولا أظن أنه سيكون أحرص منه على سيادة وحرية واستقلال لبنان.
() عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»