IMLebanon

الحريري ومدّ اليد لدمشق

في 14 شباط 2005، دوّى انفجارٌ كبير وسط العاصمة اللبنانية، راح ضحيّته رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري. تداعيات الحدث غيّرت وجه المنطقة. اجتاحت التظاهرات شوارع بيروت، وتعالت أصواتٌ نادت بضرورة خروج الجيش السوريّ من لبنان. وخلال شهرين ونيّف، بدأت القوّات المسلّحة السورية بالانسحاب استجابةً لعمومِ معطيات المرحلة.

في التداعيات، لم يوفّر سعد الحريري مناسبةً لاتهام دمشق باغتيال والده. الماكينات الإعلامية والحقوقية استُنفرت لتأمين ما يلزم من الأدلّة لإدانة دمشق الّتي تعاملت مع الملفّ، كما جرت العادة، بهدوءٍ زائد.

تصويبُ «تيّار المستقبل»، وحلفائه، على دمشق انتهى، تماما، في 19 كانون الأوّل 2009، يوم وصل سعد الحريري إلى مطارها الدولي قادماً من بيروت، ليجد في استقباله وزير شؤون رئاسة الجمهورية، آنذاك، منصور عزّام، ومعه السفير اللبنانيّ ميشال خوري. هذه الزّيارة الّتي شكّلت تحوّلاً غير محسوبٍ في سلوك الحريري، جاءت بعد غمزٍ «بروتوكولي» سوري تمثّل باتصالٍ أجراه رئيس مجلس الوزراء محمد ناجي عطري مهنّئاً الحريري بوصوله إلى سدّة رئاسة الحكومة.

في سياق التبريرات، قالت النائبة بهيّة الحريري «إنّ زيارة ابن شقيقها إلى دمشق طبيعية لأنّه يزورها كرئيس لحكومة كلّ لبنان». الحريري نفسه قارب الأمر من الزاوية الديبلوماسية ذاتها حيث قال «إنّ مسؤوليتي كرئيس مجلس وزراء دولة، تُمليها المصالح ببساطة، ولا تخضع، بالتالي، للاعتبارات والأمور الشخصية الّتي تتعلّق بأسرتي». وأضاف «إنّ العلاقة مع سوريا بالغة الأهميّة من الناحية الجغرافية والسياسيّة والتاريخية، يجب عليّ اليوم أن أتصرّف كرئيس للوزراء وليس باعتباري سعد الحريري». ولأجل التذكير بكامل مرتسمات المرحلة، لا بدّ من الإشارة إلى تصريحٍ، مثّل ذروة الانعطاف السياسيّ، قال فيه الحريري، في أيلول 2010، «نحن في مكانٍ ما ارتكبنا أخطاء. ففي مرحلة ما اتهمنا سوريا باغتيال الرئيس الشهيد، وهذا كان اتهاماً سياسياً».

قصر بعبدا

في 22 تشرين الأوّل 2016، تقاطرت الوفود الرسمية إلى قصر بعبدا لتهنئة الجنرال ميشال عون بمناسبة انتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية. الوفد الرسميّ السوريّ ترأسه السفير علي عبد الكريم علي الّذي صافح الرّئيس الجديد، ومن خلفه رئيس مجلس النّواب نبيه برّي، ورئيس الحكومة السّابق تمام سلام، ليُفاجأ علي بأنّ رابع أقانيم الوفد المُضيف، والحديث هنا عن الرئيس المُكلّف بتشكيل الحكومة، سعد الحريري، قد أدار ظهره وغادر مكانه رافضاً مصافحة سفير دمشق في لبنان، سلوك الحريري جاء بمثابةِ إشارةٍ سياسية لا بدّ من قراءتها ضمن شَرطي المكان والزمان.

لسنا نبالغ إن قلنا إنّ السلطة السورية تعيشُ، اليوم، بعضاً من أفضل أيّامها، منذ بداية الحرب. في أزمنةٍ مضت، كانت الفصائل المُسلّحة تسيطر على أجزاء واسعةٍ من حمص وحلب ودرعا وريف اللاذقية وريف حماه وريف دمشق. هذه كلّها استعيدت. معركة حلب الأخيرة دقّت الإسفين الأخير في نعشِ «إسقاط النظام». ما يحتاجه الجيش السوريّ، وحلفاؤه، هو استراحة محاربٍ قصيرة قبل أن يلتفت السّلاح نحو الجغرافية الباقية في إدلب والرّقة والجزيرة السورية. هذا عسكرياً.

سياسياً، دعا الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، على هامش القمّة السنوية لـ «مجلس التعاون الخليجي»، دعا المجتمع الدوليّ إلى «تكثيف الجهود لإيقاف نزيف الدمّ وإيجاد حلّ سياسيّ في سوريا»، من دونَ أن يكرّر أيّاً من اللازمات السعودية حول ضرورة تنحّي الرّئيس الأسد أو إسقاطه أو عزله. بدوره، قال رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» في لبنان، وليد جنبلاط، المعروف بمواقفه البراغماتية المُستندة إلى معطيات اللحظة، قال «نعم، بشار الأسد انتصر في حلب» واستطرد مؤكّداً على نقطةٍ رئيسة «لاحقاً سينقضّ (الرئيس بشار الأسد) على إدلب، وهذا يعني أن تأثيره في لبنان سيزداد». الإشارةُ الأهمّ من هذا كلّه أتت، مراراً، من البيت الأبيض. دونالد ترامب قال في مناسباتٍ عدّة أنّ جهود بلاده ستتركّز على استئصال تنظيم «داعش»، وأكّد الرئيس الأميركي الجديد على أنّ الأولوية بالنسبة إليه هي لهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا وليس لتنحّي الأسد.

في المحصّلة، وما لم تحصل مُفاجآتٌ غير محسوبة، ستستردّ دمشق عافيتها سياسياً، وسيتعيّن على الدولة اللبنانية أن تعيد بناءَ الجسور مع سوريا. قد يتكرّر سيناريو كانون الأوّل 2009، وقد يُضطرّ الحريري لزيارة دمشق، وحينَ يُطالبه الرّأي العام بتبرير «انعطافته السياسية»، فربّما لن يُضطرَ لصياغةِ جوابٍ مُبتكر، وقد يُعيد على مسامع سائليه عبارة «إنّ العلاقة مع سوريا بالغة الأهميّة من الناحية الجغرافية والسياسيّة والتاريخية، يجب عليّ اليوم أن أتصرف كرئيس للوزراء وليس باعتباري سعد الحريري».

حين تُقرّر الرياض أن تستدير سياسياً باتجاه دمشق، الّتي قد تردّ «الغزل» بمثله، فلا أنسبَ من وسيطٍ لبنانيّ صديقٍ للمملكة لمدّ الجسور. ربّما يكون الحريري الابن الّذي، إن مُنح الفرصة مرّةً لاستقبال المصافحة، فإنّه قد يُضطرّ للمبادرة بها في قادماتِ الأيّام.