خلافاً لما يردده البعض فإن رئيس الحكومة سعد الحريري لم يبتعد عن المملكة العربية السعودية ولا هي ابتعدت عنه، على رغم المرحلة الحساسة التي مرت بها العلاقة بينهما خلال الاسابيع القليلة المنصرمة، إذ مع كل ما جرى فإن ما يجمع بينهما لا يلغيه بعض الشوائب والالتباسات التي حصلت منذ إعلان الحريري استقالته من الرياض في 4 تشرين الثاني الماضي والى حين عودته عنها لاحقاً في بيروت، ولذا لا طلاق بينهما ولا إفتراق ..
يُستدل على طبيعة العلاقة التي تربط بين الحريري والمملكة كلامه قبل ايام من «أن هناك من يحاول أن يوحي بأن لدي مشكلات مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج، وهذا الأمر ليس صحيحا على الإطلاق». مشيرا الى ان «العلاقة مع المملكة هي علاقة مميزة وتاريخية وستستمر إن شاء الله من الأفضل إلى الأفضل».
وخلافاً لكلّ ما يقال هنا وهناك وهنالك يستنتج البعض مما قاله الحريري ان الرجل كان ولا يزال في صميم السياسة السعودية إزاء لبنان، فالمملكة وعلى رغم ما حصل لم تبتعد عنه ولن تبتعد، والحريري في المقابل لا يمكنه الابتعاد عنها لكثير من الاعتبارات والاسباب والوقائع.
والمملكة، كما يقول فريق من السياسيين، ترتاح الى التعامل والتعاون مع «مدرسة الاعتدال والتوافق» التي مثّلها وجسّدها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وهي مدرسة لم تحمل السلاح ولم تشارك في الحرب، وهي مستمرة مع نجله سعد وآل الحريري عموما، ولذلك ستستمر المملكة في التعامل معها، من دون ان يعني ذلك انّها ستبخِس القادة الآخرين في البيئة الاسلامية السنّية حقّهم ومواقعَهم ووجودهم، بل ستتعامل معهم جميعاً على اساس انّهم اقوياء، وكذلك ستكون نظرة المملكة الى بقية القيادات والمكوّنات اللبنانية بما يدعم بقاء لبنان، كما قال وزير الخارجية عادل الجبير «مستقرّاً ومزدهراً»، مضيفاً: «إنْ لم يكن لبنان موجوداً لكان ينبغي ابتكاره واختراعه، فهناك اكثر من 17 طائفة تعيش فيه بتجانس وهذا نموذج. واذا خسرناه سنخسر كل الأقليات وسنخسر هذه الثروة لثقافتنا».
وفي السياق من الطبيعي أن تتواصل اللقاءات اللبنانية ـ السعودية، سواء في بيروت او في الرياض، أخذة في الاعتبار «الطبعة الجديدة» للتسوية السياسية التي عاد الحريري بموجبها عن استقالته، والتي سجّلت الرياض لرئيس مجلس النواب نبيه بري فيها «وعده» للحريري «أنّ لبنان سيكون حيادياً في شأن ما يحدث في العالم العربي» وأنه، أي الحريري «سيُعطى الهامش السياسي للعمل» الذي قال الوزير الجبير قبل ايام عنه إنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون و«حزب الله» «لم يعطياه» للحريري، و«استخدماه واجهةً لتغيير القانون الانتخابي»، فقرّر الاستقالة «لإحداث صدمة ايجابية». واشار الجبير ان الرياض ايدت «وعد» بري للحريري و«أننا ننتظر لنرى».
على ان كلام الجبير هذا يكشف ان المملكة إختطت منذ تولّي الامير محمد بن سلمان منصب ولي ولي العهد، ومن ثم منصب ولي العهد، اختطت نهجاً جديداً في التعاطي مع لبنان يقضي بالانفتاح على جميع القيادات والقوى السياسية داخل الطائفة الاسلامية السنّية وفي الطوائف الاخرى المسيحية والاسلامية، وقد دلّ الى ذلك استقبالاتها قيادات من مختلف الوان الطيف السياسي والطائفي والمذهبي اللبناني والتي كان آخرها، وليس آخرها، استقبالها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي للمرة الاولى في تاريخها، وذلك في خضمّ ازمةِ استقالة الحريري ووجوده في الرياض في تلك الاثناء، وقد تخلل هذه الزيارة لقاء بين الحريري والراعي الذي احاطته القيادة السعودية بحفاوة لافتة.
وستكون العلاقة اللبنانية ـ السعودية مرشحة لأن تشهد مزيدا من النشاط في قابل الايام وحيث لبنان بات على مسافة اربعة اشهر من موعد الانتخابات النيابية المقررة في 6 أيار 2018، وهذه الانتخابات هي محط اهتمام المملكة في هذه المرحلة، وستكون كذلك في المرحلة اللاحقة، بحيث انّها تريد لهذا الاستحقاق الدستوري ان يكون محطة مفصلية لجهة انتقال لبنان الى مرحلة جديدة في علاقاته معها تنسجم وتليق بـ«رؤية المملكة 2030 « أي «المملكة العربية السعودية الثانية» التي يعمل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الامير محمد بن سلمان على بنائها حالياً، وهي علاقات تعمل الرياض على تحقيقها ايضاً وفي الوقت نفسه مع مجمل البلدان العربية.
كما أن العلاقة اللبنانية ـ السعودية، تتّجه الى الدخول في طور جديد، يأخذ في الاعتبار الاصلاحات والتغييرات الجارية في المملكة بمعزل عن انشغال القيادة السعودية بالازمات التي تعصف بالمنطقة والازمة المتفاقمة بينها وبين ايران.
والرياض، وعلى رغم كل ما جرى، «تنظر بتفاؤل الى مستقبل الوضع اللبناني، اذ انها واثقة من ان لبنان سيزدهر أكثر فأكثر كلما تراجعت أزمات المنطقة، وتوافرت الحلول اللازمة لها، وأنها حريصة على تطوير علاقاتها معه انطلاقا من ان مصالحها فيه ودعمها له على مختلف المستويات لا تقارن بمصالح الدول الأخرى فيه التي بنيت منذ اواخر القرن الماضي والى الآن، وكذلك لا يمكن الرياض التفريط بما لها من علاقات في لبنان، بل ستسعى الى تطويرها وتعزيزها. ويردد البعض في هذه المجال ان حجم ما قدمته المملكة للبنان من دعم ومساعدة منذ نشوء العلاقات بينهما يبلغ عشرات المليارات من الدولارات.
ويؤكد هؤلاء انّ الرياض في علاقتها الجديدة بلبنان «خرجت من الحصرية الى الفضاء اللبناني الارحب مسيحياً وإسلامياً وهي تتطلع الى ان تفضي الانتخابات النيابية الى سلطة سياسية جديدة لتعمل معها على تعزيز هذه العلاقة بطبعتها الجديدة.