الأرجح أنّ استقالة الرئيس سعد الحريري ليست حدثاً لبنانياً، بل هي جزءٌ من الحدث السعودي، أي من الترتيبات الأخيرة في داخل المملكة. فوليُّ العهد، محمد بن سلمان، يُمسك باللعبة بدءاً بمؤسسات السلطة هناك، وصولاً إلى كل المفاصل التي تستطيع السعودية تحريكَها في الشرق الأوسط. والهدف فرملة اندفاع إيران إلى تثبيت «الهلال الشيعي»!
على عجل، قفز الحريري إلى الرياض مرتين متتاليتين. ويقول العالمون: ليس فقط مستشاروه وكوادر «المستقبل» فوجئوا بهاتين الزيارتين، بل هو نفسه فوجئ أيضاً. ولذلك اضطر إلى إلغاء مواعيده بلا إنذار، وطار إلى المملكة.
هناك شيءٌ ما يتحرَّك في داخل دوائر الحكم في السعودية، وقلائل هم الذين علموا به، حتى بين القريبين من المملكة. فالقرار بالتغيير في الداخل السعودي صيغَ على عجل، وإن كانت مقدّماتُه جاهزة منذ وصول الملك سلمان بن عبد العزيز إلى العرش.
العجلةُ في السعودية مردُّها إلى الآتي: لقد أمسك الإيرانيون بمعظم القرار في العراق وسوريا ولبنان. وهم يتربّصون بالخاصرة السعودية والخليجية من خلال سيطرتهم على العاصمة اليمنية صنعاء. وقد عطّلت المملكة مخاطر إيران على استقرارها، ولكن جزئياً ومرحلياً ربما. لكنّ طهران تمتلك أوراقاً كثيرة قد تمكِّنها من إعادة خلط الأوراق في الخليج.
وفي الأيام الأخيرة، أعلن الرئيس الإيراني حسن روحاني هذه السيطرة علانيةً، وأضاف إليها السيطرة على جزء من الشمال الإفريقي. وكرَّر مسؤولون إيرانيون ذلك، وبينهم مستشار المرشد علي أكبر ولايتي في لقائه الحريري أخيراً.
في المملكة، يَعتبر وليّ العهد، الرجل القوي، أنّ هناك لحظة دولية- إقليمية مناسبة، وقد لا تتكرّر، لممارسة ضغط على إيران يؤدّي إلى إضعاف «الهلال الشيعي» أو ربما تفكيكه، من العراق إلى سوريا فلبنان. فالرئيسُ الأميركي دونالد ترامب يبحث عن شراكة عربية قوية في مواجهة طهران. كما أنّ إسرائيل تتحرّك لئلّا تصبح إيران النووية على حدودها السورية- اللبنانية.
فالسعودية، مع الأمير محمد، تتغيَّر من الداخل. وعلاماتُ الانفتاح والإصلاح الاجتماعي والسياسي والديني والاقتصادي تتوالى. وهذا ما يتماشى مع نظرة واشنطن ويتيح تأسيس شراكة أقوى معها.
استنفر ترامب حلفاء واشنطن. فسياسته الشرق أوسطية المعلنة منذ الحملة الانتخابية تقوم على أنّ الولايات المتحدة لا تتورّط مباشرةً في حروب المنطقة، ولا تقاتل عن حلفائها، بل تقدّم الدعمَ لهم لكي يقاتلوا هم أنفسُهم. وهذا الأمر تبلَّغه السعوديون الذين زارهم الرئيسُ الأميركي في مطلع عهده الرئاسي وعقد معهم صفقاتِ سلاحٍ بمئات المليارات من الدولارات.
إذاً، أدرَك السعوديون أنّ عليهم أن يأخذوا على عاتقهم الجزءَ المتعلّق بهم من المواجهة. فإذا تلكّأوا، لن تكون الولايات المتحدة هي الخاسر الأكبر بل هم. ولذلك، أطلق وليّ العهد شرارة المواجهة على عجل. ولبنان هو إحدى ساحاتها ورئاسة الحكومة هي صندوق بريد فيها.
يقول بعض المتابعين: شخصياً، لم يكن الحريري راغباً في بلوغ هذه القطيعة مع «حزب الله». فالحريري «مُلبنَن» جيداً. وهو بقيَ حتى اللحظة الأخيرة يدافع عن التسوية المعقودة مع «الحزب»، في نهايات 2016. وحتى بعد عودته من الزيارة الأولى للسعودية، حرص على عدم مهاجمة إيران أو «الحزب»، لا من باب التمويه بل من باب الحرص على التسوية ورئاسة الحكومة والتعايش داخل المؤسسات.
خصومُ الحريري يقولون: بالتأكيد، هو يدرك أنّ مصلحته ليست في «الطلاق». وربما يخشى أن تنتهي المواجهةُ السعودية- الإيرانية فجأة، وتتركه على قارعة الطريق.
ويَرى البعض أنّ الحريري انضوى في روحية «تحالف كليمنصو» الذي هو تحالف «واقعي» مع «حزب الله» أيضاً من خلال الرئيس نبيه برّي. كما أنه يحصد المكاسب من «شهر العسل» مع الوزير جبران باسيل، ومن خلاله رئيس الجمهورية.
وعلى الأرجح، كان الحريري يطمح إلى تغليب الاعتبار اللبناني والنأي عن المحاور الخارجية. ولكن تعذّر على الرجل- واقعياً- مغادرة العباءة الإقليمية… كما يتعذّر ذلك على كل القوى الداخلية المنخرطة في أحد المحورَين السعودي والإيراني.
طبعاً، لا يعني ذلك أنّ الحريري كان مرتاحاً إلى نفوذ «حزب الله». لكنّ فلسفة التسوية في 2016، التي اعترف بها السعوديون في ذلك الوقت، تقوم على مقايضة: يطوي الحريري صفحة الاعتراض على نفوذ «حزب الله» وسلاحه ودوره في سوريا مقابل أن يعود هو «آمناً» إلى بيروت، وإلى السلطة والمؤسسات، وأن يثبّت زعامته السياسية.
والسعوديون وافقوا على تلك التسوية لأنّ هناك مَن أقنعهم بأنّ سوريا مقبلة على تسوية سياسية تقود إلى تغيير الرئيس بشار الأسد. وبعد ذلك، يتغيّر كل شيء في لبنان أيضاً. فلا داعي للاستعجال. ولكن، تبيَّن أنّ هذه المقولة مجرّدُ سراب… حتى إشعارٍ آخر!
فكَّر الحريري براغماتياً: إذا كان الشرق الأوسط يقع كله تحت سيطرة طهران، فما الفائدة من إخلائي موقعَ رئاسة الحكومة وترك الساحة السنّية في لبنان لها؟ أليس الأفضل أن أستمرّ موجوداً على الأقل؟ فتجربةُ الابتعاد المريرة لسنوات لقَّنت الحريري دروساً.
لذلك، حين عاد الحريري من زيارة الرياض الأولى، وسرَّب الأجواءَ الإيجابية، لم يكن يناور. ولكن يبدو أنّ موجة التشدُّد التي عصفت بالمملكة هي التي دفعته إلى الزيارة الثانية بعد ساعات، والحسم المفاجئ للجميع. ولذلك، فالصوتُ الذي صدر عنه في الرسالة المسجَّلة في السعودية، هو ليس صوته المعروف في السراي الحكومي.
اليوم، هناك عودةٌ إلى ما قبل التسوية بكل معانيها: الحريري «منفيٌّ» طوعاً إلى الخارج، والأسباب الأمنية سرعان ما ظهرت… بسحر ساحر، وربما يتمّ تأليفُ حكومة جديدة أحادية الاتّجاه، يدعمها «حزب الله». فغيابُ الحريري يبرِّر قيامَ حكومة جديدة تتولّى هي تصريف الأعمال بدل حكومته، ولو لم تحصل على ثقة المجلس. أليس هذا نموذج 7 أيار، بمعزل عن الظروف والأدوات التي أدّت إليه؟
بالنسبة إلى كثيرين، مرغمٌ هو الحريري. وبالنسبة إلى آخرين، هو بطلٌ، ولو غصباً عنه. وفي الحالين، المرحلةُ المقبلة ستفرز الأرباح عن الخسائر.